عندما تكون السلطات المختصة في الشؤون النقدية مهتمة بجانب السلامة المالية وبإجراءات ضمانها وتوفير متطلباتها ومفضلة لها على متطلبات نمو وازدهار الاقتصاد الحقيقي، ربما يقود ذلك إلى تعميق المشكلة . فقد طالعتنا الأنباء هذا الأسبوع بخبر قيام مصرف الامارات المركزي بإجراء دراسة مسحية هدفها تقييم الوضع الراهن للبنوك وقدرتها على الالتزام بمعايير السيولة المقترحة الجديدة من قبل لجنة “بازل3”، وهنا لابد من الإشارة إلى أن تطبيق معايير “بازل 3” وبالأخص نسبة الأصول الأكثر سيولة إلى التدفقات النقدية الخارجة والمسمى بمعيار تغطية السيولة تعني دفع المصارف لمزيد من التشدد في الإقراض في حالة لم تتم معالجة ضعف مستويات السيولة .
المسح الذي اجراه المصرف المركزي لتقييم الوضع الراهن للبنوك وقدرتها على الالتزام بمعايير السيولة المقترحة من “بازل 3”، والذي نشرته “الخليج” يوم الثلاثاء أكد ما كنا نشير إليه من انخفاض مستويات السيولة وشحها في المصارف الإماراتية رغم اختلاف ما نعنيه عما اشار اليه المركزي من نتائج المسح .
فقد أظهر المسح وفقا لما نشر في “الخليج” أن معظم المصارف في الدولة لا تغطي أصولها الأكثر سيولة التدفقات النقدية الخارجة منها بنسبة 100% . وإذا ما تذكرنا أن أهم فقرة في التدفقات النقدية الخارجة من المصارف هي فقرة القروض والسلفيات، أدركنا سبباً مهماً آخر يدفع المصارف للتشدد في الإقراض والمتمثل بتراجع مستويات الأصول الأكثر سيولة وعالية الجودة . ولذا فان المصارف وفي سعيها للمحافظة على نسبة مقبولة من تغطية الأصول الأكثر سيولة والعالية الجودة للتدفقات النقدية الخارجة تسعى لتقليص القروض وهي أهم وأكبر فقرة في التدفق النقدي الخارج والتي تشكل ما بين 50 إلى 100% من اجمالي التدفقات النقدية .
وتشمل الأصول العالية الجودة التي يمكن تحويلها إلى سيولة نقدية لتلبية حاجاتها إلى السيولة، شريحتين من الأصول السائلة : الأولى هي النقد والاحتياطي الإلزامي لدى المركزي، والدين السيادي العالي الجودة، والشريحة الثانية من سندات الشركات العالية الجودة والمغطاة بتصنيف ائتماني عال . إلا أن المستوى الثاني من الأصول يبقى خاضعاً لخصومات ومحدداً بنسبة 40 في المئة من مجمل الأصول السائلة .
ان معيار تغطية السيولة هو احد المعايير التي اقترحتها لجنة بازل في ديسمبر ،2009 والتي تضمن السلامة المالية للمصارف وقد تم وضعه من قبلها بغرض المساعدة في خفض مخاطر السيولة النظامية من خلال خفض احتمال مواجهة كل مؤسسة بمفردها صعوبات في السيولة . الهدف الرئيسي من هذا المعيار هو جعل المصارف قادرة على مواجهة افتراضات مخاطر محددة تجمع بين صدمة خاصة بالمؤسسة مثل خفض التصنيف الائتماني أو خروج وسحب الودائع أو صدمة نظامية تشمل النظام المالي بكامله .
ان دولة الإمارات التي تتمتع بوضع مالي ممتاز ليست معرضة لصدمة في النظام المالي . كما أن ضمان الودائع من قبل الدولة يحول دون أي مخاطر نظامية . وهنا لا بد من التساؤل عن أي من الأمرين أكثر أهمية للسياسة النقدية السلامة المالية أم السلامة الاقتصادية ؟ .
ليس هناك أدنى شك من أن الترابط وثيق جدا بين أداء الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي . الأخير هو بمثابة الدم في الجسم الذي يزود الأعضاء بالدماء والأوكسجين، فيما تقوم أعضاء الجسم بتوليد مكونات الدم من سائل وخلايا بيضاء وحمراء .
الناتج المحلي هو الذي يولد الودائع ويسمح بنمو مطرد لأصول المصارف، وإذا تراجع النمو أو توقف تعرضت المصارف للمخاطر النظامية، وطبيعي ان التعرض لمخاطر النظامية يعني تدهور وانهيار الاقتصاد الحقيقي . ومن واجب السياسة النقدية الالتفات للسلامة الاقتصادية بقدر اهتمامها بالسلامة المالية .
الرقابة على المصارف هي واحدة من مهام المصارف المركزية وليست كلها، فمهام المركزي تمتد إلى صنع السياسة النقدية والتي بدورها تنصرف لتحقيق الاستقرار الاقتصادي جنبا الى جنب مع السياسة المالية .
وفي الوقت الذي لا بد لنا من الإشادة بالدور الرقابي الممتاز الذي لعبه المركزي الإماراتي في الرقابة على المصارف منذ اندلاع الأزمة المالية، فلا بد لنا أيضا من التأكيد على ضرورة تفعيل دوره كسلطة نقدية . فما قام به المصرف المركزي منذ اندلاع الأزمة المالية انصب على توفير متطلبات تأمين المصارف ضد المخاطر النظامية ابتداءً من توفير السيولة لدعم رأس المال في شقيه الأول والثاني، مروراً بتوفير الشراء العكسي لشهادات الإيداع وانتهاءً بعمليات المقايضة دولار/درهم (SWAP) والتي بموجبها تقوم البنوك التجارية بإجراء عمليات بيع الدولار مقابل الدرهم آنياً إلى المصرف المركزي .
وجميع هذه الإجراءات تستهدف توفير سيولة نقدية لفترة محددة بالدرهم عندما يحتاج البنك إلى ذلك لمواجهة مخاطر نظامية .
لقد ذهب المركزي في حرصه على السلامة المالية للمصارف، إلى حد التضحية بقبوله المضاربة في أسعار الفائدة نتيجة تفاوت أسعار الفائدة على إعادة شراء شهادات إيداع الريبو وبين سعر الفائدة على الدولار بسبب انخفاض الفائدة على الدولار وإبقاء الفائدة للشراء العكسي مرتفعة .
هذا التسهيل النقدي المتمثل بالإبقاء على سعر الشراء العكسي أكثر ارتفاعا من الفائدة على الدولار لم يكن هدفه سوى تأمين المصارف ضد المخاطر النظامية من دون تيسير السيولة للاقتصاد من خلال الإقراض المصرفي، بدليل أن المصرف المركزي أحجم عن أي إجراء قد يؤدي من وجهة نظره إلى رفع المخاطر النظامية .
ولعل هذا ما يفسر عدم تغير نسبة الاحتياطي الإلزامي والتي لا تزال عند 14% من اجمالي الودائع الجارية والتوفير وتحت الطلب وهي نسبة عالية جداً في ظل ظروف تتطلب التيسير النقدي وتشجيع المصارف على الحد من تشددها في الإقراض . وقد دأب المركزي على التأكيد مرارا أن المصارف الوطنية لا تحتاج إلى دعم بالنظر إلى معدل كفاية رأس المال المرتفع وهو ما يؤكد تركز اهتمامه بالسلامة المالية بأكثر من اهتمامه بالأداء الاقتصادي . فهو لا يلتفت إلى حقيقة حاجة البنوك المحلية إلى سيولة منخفضة الكلفة حتى تتمكن من زيادة حجم إقراضها وتوفير التمويلات اللازمة للشركات والمصانع بما يضمن سرعة تعافي الاقتصاد الوطني .
فالمركزي الذي أبقى سعر الفائدة الريبو مرتفعة يدرك أن نسبة 4% على السيولة التي قام بضخها في المصارف سترفع إلى مستويات عالية جدا النسبة التي ستتقاضاها المصارف على هذه السيولة في حال تدويرها عبر قروض .
ولا شك في أن ارتفاع كلفة الأموال هو أحد أهم أسباب تراجع الإقراض وعزوف الشركات والمشاريع الصغيرة والمتوسطة عن القروض ذات الفائدة المرتفعة أصلاً بسب الأسلوب المغالى فيه باحتساب الفوائد الثابتة على أصل المبلغ المقترض .
فالفوائد السنوية التي تتفاوت نسبتها بحسب أمد القرض وبحسب سعر الفائدة الابتدائي الذي يتفق بموجبه مع العميل، يصل مبلغها في حالة القروض الطويلة الأمد إلى أكثر من مبلغ القسط السنوي لأصل القرض . وهذا ما يخلق سبباً اضافياً لتراجع الإقراض إلى جانب شح السيولة لدى المصارف .
فإذا كانت المصارف ستقترض من المركزي بفائدة 4% فإنها ستضطر للإقراض ب 5% في أقل تقدير . وبحسب أسلوب المصارف المغالى فيه في احتساب الفائدة على أساس الفائدة الثابتة على أصل القرض (فائدة مركبة)، فإن سعر الفائدة الحقيقي الذي سيترتب على المقترض سيصل على 64 .14% سنوياً لقرض أمده عشر سنوات .
ولو أن المصرف المركزي كان خفض في إطار سياسة نقدية توسعية أسعار الفائدة للشراء العكسي على غرار الفيدرالي الأمريكي وبما يجعل المصارف تقرض بفائدة 3% بدلاً من 5% فإن الفائدة المحتسبة حتى بموجب أسلوب القسط الثابت سوف لن تتجاوز 9% . وهنا نود أن نذكر ونستذكر الفترة التضخمية الحادة في النصف الثاني من 2007 والنصف الأول من 2008 عندما كانت هناك مطالبة للمركزي بأن يرفع الفائدة على سعر الشراء العكسي لشهادات الإيداع ويخفض الفائدة على شهادات الإيداع، فإن المركزي كان يتذرع بعدم إمكانية استخدام سعر الفائدة بسبب ارتباط الدرهم بالدولار وما يمكن أن يسببه تفاوت سعر الفائدة من مضاربات تضر بالاقتصاد الإماراتي .
وبالفعل فقد كان حينذاك محقاً كل الحق، ولكن السؤال الذي نضعه الآن أمام المركزي ونأمل أن نسمع إجابة شفافة عليه هو: لماذا أبقى على فائدة إعادة الشراء الاسترشادية مرتفعة وسمح بحدوث إضرار بالاقتصاد الإماراتي بسبب المضاربات التي تحدث في أسعار الفائدة؟
إن تفضيل السلامة المالية على الاستقرار الاقتصادي والنمو ليس هو الخيار الوحيد المتاح امام السلطة النقدية . فضبط العلاقة بين الاقتصاد المالي والحقيقي يمكن أن تتم من خلال التيسير النقدي في ظروف التباطؤ في ظل توفير متطلبات الملاءة المالية . فلا يوجد تناقض بين التيسير النقدي وبين ارتفاع كفاءة رأس المال خصوصاً أن المركزي قطع شوطاً ممتازاً في مجال تحديد المعايير المناسبة للقروض المتعثرة .
المصارف التي أخذت بهذه المعايير لم تتأثر ربحيتها بالرغم من المخصصات الكبيرة التي تجنبها . لذا فحري أن نبحث كيفية تقليل التعثر بدلاً من البحث عن كيفية التحسب له . وواضح أن التعثر وتزايده وتصاعد المخصصات الخاصة التي تجنبها المصارف، يعود بالدرجة الأساس إلى تراجع قيم الأصول والتي بدورها نجمت عن توقف مفاجئ للقروض المصرفية وتحول تدفقاتها النقدية الى سالبة وبما قلص مستويات السيولة الكلية المتاحة في الاقتصاد للأفراد والشركات .
صحيح أن تجنيب مخصصات يرفع درجة السلامة المالية لمصارف والنظام المالي، إلا أن استمرار التعثر وتزايده يهددان من طرف آخر السلامة المالية نفسها ناهيك عن التأثير السلبي في النمو الاقتصادي بسبب ما بسببه من تباطؤ في الاقتصاد . فاستمرار وتزايد التعثر لا سمح الله سيأكل من جرف رأس المال وقوداً لتخفيض الملاءة المالية وبالتالي سيعرض النظام المالي لمخاطر نظامية .
من هنا فإننا نقول إن الموازنة بين متطلبات التيسير النقدي لتحفيز الاقتصاد سواء بالإجراءات التقليدية كخفض الفائدة على إعادة الشراء الريبو وتخفيض الاحتياطي الإلزامي أو بإجراءات استثنائية كالتخفيف الكمي، وبين متطلبات السلامة المالية لدرء المخاطر النظامية، هو الحل الوحيد والأمثل أمام السلطة النقدية كي تؤدي مهامها على الوجه الأمثل .
ففي الوقت الذي نحتاج فيه لمسح لمعرفة التغطية للسيولة، فإن الاقتصاد بحاجة أيضا إلى مسح يجريه المركزي لمعرفة حجم السيولة التي يحتاجها الاقتصاد من القروض المصرفية لكي يغادر حالة التباطؤ و يعاود النمو بمعدلات معقولة .
وليس أدل على الدور السلبي الذي يلعبه تراجع الإقراض المصرفي في الحياة الاقتصادية سوى التأثير المباشر الرياضي في العلاقة بين أداء أسواق الأسهم وبين القروض المصرفية . فعلاقة الارتباط الموجبة القوية بقيمة 87 .،0 تؤشر الى التأثير الكبير لتراجع القروض الشهرية على أداء مؤشر سوق الإمارات .
ولا يقتصر تأثير القروض المصرفية على أسواق الأسهم بل ينسحب على كل الاقتصاد في مختلف قطاعاته . وفي ظل استمرار غياب الأرقام التي تنفي أو تؤكد التباطؤ الاقتصادي، فليس أمامنا سوى أن نسترشد بمؤشرات أسواق المال والمتاح من أسواق العقار والذي يصدر عن دائرة الاراضي والاملاك في دبي . فالمؤشران يدلان على استمرار تباطؤ الاقتصاد الحقيقي والذي لم تصدر بياناته منذ العام ،2008 مؤشر أداء أسواق العقار والمال يعكس إلى حد ما أداء مؤشرات الأسواق الأخرى كمبيعات التجزئة والسلع المعمرة .
المتاح من البيانات يجب أن يقنع السلطات الاقتصادية المختصة بحقيقة الحاجة الملحة لعودة الإقراض المصرفي كشرط لا بد منه لمغادرة التباطؤ الاقتصادي والتراجع الحاد في معدلات النمو السنوية المعجزة التي كانت تحققها دولة الإمارات في السنوات السابقة والتي بلغ معدلها غير المسبوق عالمياً خلال السنوات 2002 - 2005 نحو 4 .13% حيث ارتفع الناتج المحلي من 269 مليار درهم إلى 393 مليار بالأسعار الثابتة (استبعاد أثر التضخم) بزيادة حقيقية قدرها 124 ملياراً بمعدل سنوي قدره 31 مليار درهم .
وحالياً فإن معدل النمو وفقاً لمصادر غير رسمية قد لا يزيد على 2% بالأسعار الجارية وبالتأكيد فإنه سلبي بالأسعار الثابتة .
بقلم - د. همام الشماع
* نقلاً عن صحيفة الخليج .
* نقلاً عن صحيفة الخليج .
منقول للفائدة
0 التعليقات :
إرسال تعليق