تابع جديد المدونة عبر:

دور السوق المالية في التنمية الاقتصادية



تواجه معظم الدول الأقل تطورا في العالم بما فيها الدول العربية والشرق أوسطية، مشكلة عدم توفر رأس المال الكافي بالشروط والتكاليف المناسبة لتمويل مشروعات التنمية الاقتصادية الخاصة والعامة، ويعود نشوء هذه المشكلة إما للشح النسبي في الموارد المالية أو للعجز النسبي في وسائل وأدوات تجميعها، أو لاستغلال هذه الموارد في أوجه نشاط هامشية لا يساعد كثيرا على تسريع العملية التنموية.

ورغم الخطوات الكبيرة التي خطاها النظام المصرفي في كثير من هذه الدول الخليجية، فإن نشاطه بقي مقتصرا على الوصول إلى الكثير من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية إما لعجزة عن ابتداع الوسائل التي تحرك تلك القطاعات أو لكونه يواجه تعقيدات إدارية وقانونية تقيد حركته.

أما في جانب الحكومات، فقد اتسم كثير من مصادر إيراداتها بعدم المرونة وضعف القاعدة، الأمر الذي لم يمكنها من زيادة هذه الإيرادات بمعدلات تستطيع أن تواكب معها خطى الإنفاق المتسارع في مجال الخدمات، ناهيك عن الحاجة إلى توفير مبالغ كبيرة في موازناتها لعمليات البنية التحتية والاستثمار الإنتاجي اللذان يمثلان الركيزة الأساسية لعملية التنمية.

هذا البطء في تنمية الموارد والعائدات الحكومية، مضافا إليه ضعف مصادر النقد الأجنبي لكثير من الدول، حدا ببعضها إلى الاعتماد على العون الخارجي كوسيلة رئيسية لتمويل برامج التنمية المحلية، فكانت النتيجة مزيدا من التراجع بسبب التكلفة العالية لخدمة تلك الديون والارتباط بنماذج التنمية للدول المانحة للعون، التي تتعارض في كثير من الحالات مع الظروف والأولويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدول المستفيدة.

لهذه الأسباب مجتمعة أو منفردة بدأت كثير من الدول في العالم غير الصناعي تشهد منذ عقد الثمانينات تحولات هيكلية بلغت درجة من العمق طالت معها فلسفة الاقتصاد الكلي نفسه. وترتكز الفلسفة الجديدة إلى قيام هذه الدول بتطبيق برامج اقتصادية تتشابه في أهدافها، وإن تفاوتت في شموليتها وتيرة تنفيذها. فغالبية هذه البرامج هدفت إلى:

تحرير الأنشطة الاقتصادية والخدمية من القيود.
تقليص دور الدول في الاقتصاد الوطني لصالح فعاليات القطاع الخاص.
زيادة الاعتماد على السوق لسد الاحتياجات التمويلية للقطاعات الاقتصادية المختلفة.
خلق البيئة القانونية والمؤسسية المحفزة للاستثمارات المحلية والأجنبية على حد سواء.
وتضفي هذه التحولات الهامة على الأسواق المالية بعدا أوسع، ويلقي عليها في الوقت نفسه مسؤولية أكبر في رفع كفاءة حشد الموارد وتوفير الاحتياجات التمويلية الجديدة وتسهيل تنفيذ برامج تخصيص القطاع العام.

ومن هذا المنطلق بدأت هذه الأسواق تحظى بعناية خاصة إما نحو التطوير والتحديث أو التأسيس، نظرا لدورها المحوري المتوقع في العملية التنموية. ولم يكن تأسيس وتشغيل أسواق الأوراق المالية في دول مجلس التعاون الخليجي إلا انسجاما مع القناعة المتعاظمة لدى أوساط الفعاليات الاقتصادية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية بأهمية الدور الذي سيلعبه في مجهودات التنمية الجارية، فيشير الدليل المتاح في الأدبيات المنشورة حول هذا الموضوع إلى أن للأسواق المالية منافع محتملة كثيرة للاقتصادات المحلية إلى درجة أنها تسهم في تحقيق واستقرار معدلات النمو فيه.

ولكن يجب القول مقدما بأن الاستفادة من هذه الأسواق يختلف من بلد لآخر تبعا للتباين في مستوى النضوج الرأسمالي وخصائص الاقتصاد والجاهزية المؤسسية وملائمة المرجعية القانونية وغير ذلك من عوامل إيجابية مواتية أو معوقة.

"
تواجه معظم الدول الأقل تطورا في العالم بما فيها الدول العربية والشرق أوسطية، مشكلة عدم توفر رأس المال الكافي بالشروط والتكاليف المناسبة لتمويل مشروعات التنمية الاقتصادية الخاصة والعامة.
"
فمثلا ليس من المتوقع أن يكون الدور الذي تلعبه الأسواق المالية في الدول الصناعية المتقدمة كالولايات المتحدة وبريطانيا واليابان هو نفس الدور الذي تؤديه هذه الأسواق في الدول الأقل تطورا كالدول العربية والإفريقية وغيرها.

ففي الوقت الذي تعتبر فيه البورصات المالية من أهم ركائز الهيكل الاقتصادي للدول المتقدمة لا تزال البورصات تمر بمرحلة من النشوء والتطور في معظم الدول النامية. فالاهتمام في تأسيس وتطوير أسواق الأوراق المالية في الدول الأقل تطورا لم يبدأ إلا في العقد الماضي نتيجة التفاعل بين عدد من العوامل والمتغيرات الاقتصادية الداخلية والخارجية.

ومن المنافع المحتملة للأسواق المالية ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر، ويمكن إجمالها بما يلي:

جمع المدخرات الوطنية وتوجيهها نحو القطاعات الاقتصادية المختلفة على أساس تنافسية كفؤة.
جذب الاستثمارات الأجنبية لتسهم في تسريع عملية التنمية الاقتصادية وتقليص الاعتماد على الاقتراض من الخارج.
الإسهام في تحقيق التوزيع الأمثل للموارد المالية المتاحة وبالتالي التقليل من تكاليف ومخاطر التمويل.
المساعدة في رفع مستوى الوعي التمويلي والاستثماري للأفراد والمؤسسات، وزيادة شفافية وموثوقية المعلومات ذات الصلة بأداء الشركات المدرجة والاقتصاد الكلي على حد سواء.
تحسين فرص وإمكانيات إقامة علاقات ترابط وقنوات اتصال مالية دولية.
تعزيز قدرة السلطة النقدية في الدولة على إدارة سياستها النقدية من خلال استخدامها لعمليات السوق المفتوحة كأحد أهم الأدوات غير المباشرة لهذه السياسة.
تسريع وتسهيل عملية التخصيص وتوسيع قاعدة الملكية في الاقتصاد.
الإسهام في النهوض بمستوى الوعي الادخاري والاستثماري لدى مجموع المواطنين.
تحسين قدرة الاقتصاديات المحلية على استخدام الأساليب والأدوات المتاحة من خلال السوق المالية بهدف التقليل من مخاطر وتكاليف التقلبات الدولية غير المفضلة في الأسعار. وهذا مفيد بشكل خاص للدول التي تفتقر في تجارتها الخارجية.
تعريض الاقتصاديات الأقل تطورا لمؤثرات إيجابية خارجية على شكل استيراد تكنولوجيا المعلومات والخبرة الفنية في هذا المجال.
تمكين إدارات الشركات المساهمة العامة من بناء هياكلها المالية الملائمة والتي تحقق من خلالها أفضل التوازنات بين عنصري الربحية والمخاطرة.
الأسواق المالية
وهكذا فإن للأسواق المالية دورا هاما في تحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي عموما، ولكن كي تستطيع هذه الأسواق أن تقوم بالدور المرجو منها لإصدار العملة الخليجية الموحدة، فلا بد لها أن تتغلب على الخلل القائم بها، من خلال النقاط التي يمكن إجمالها بما يأتي:

يجب أن يتمتع السوق بدرجة كافية من السيولة (Liquidity) والتي تسمح للمتعاملين في الأوراق المالية بتنفيذ صفقات التداول بسرعة (Marketability) وبسعر معروف ولا يختلف كثيرا عن أسعار التداول السابقة، على افتراض عدم وجود معلومات جديدة عن أداء الوحدة الاقتصادية المصدرة لهذه الأوراق، وهذا ما بعرف بخاصية استمرار السعر(Price Continuity)، حيث بلغت عدد الشركات المدرجة في جميع الأسواق المالية العربية 1555 شركة للعام 2008، فأعدادها لا تتجاوز ثلث عدد الشركات المدرجة في سوق نيويورك.

حتى يتمتع السوق بسيولة كافية لا بد وأن يتصف بالعمق (Depth)، أي أن يجتذب عددا كبيرا ومتنوعا من المشاركين والمتعاملين فيه، والذي يهتدون في قراراتهم الاستثمارية بمعطيات العرض والطلب، مما يمنع التقلبات الدراماتيكية غير المبررة اقتصاديا في أسعار الأوراق المالية المتداولة، حيث بلغ حجم التداول للأسواق المالية العربية لعام 2008 (891,999.98) مليار دولار، وحجم التداول هذا يتم خلال شهر واحد في سوق نيويورك للأوراق المالية.

يجب أن ينجح السوق في تحديد أسعار عادلة للأوراق المالية المتداولة فيه، والمبنية على معلومات تاريخية وراهنه عن أداء الوحدات المصدرة لهذه الأوراق، وأن يصاحب ظهور أية معلومات جديدة عن هذا الأداء تعديلات مناسبة وبالاتجاه الصحيح لهذه الأسعار. وهذه الصفة تعرف بالكفاءة المعلوماتية (Informatio Efficiency)، وبموجبها يجب أن تتوفر معلومات عن كفاءة التسعير، ولا بد أن يتاح لجميع المشاركين والمتعاملين في السوق معلومات كافية ودقيقة وملائمة وموثوقة عن حركة الأسعار والتداول في السوق، وعن أداء الاقتصاد الكلي كما عن أداء الوحدات المصدرة للأوراق المالية، حيث بلغت القيمة السوقية للأسواق المالية العربية لسنة 2008، (805,561.98) مليار دولار، وهذا العدد لا يعادل مجموع خمس شركات كبرى مدرجة في سوق نيويورك المالي، حيث تقدر حجم الأسواق المالية العربية مجتمعة من الأسواق المالية العربية بنسبة لا تزيد عن 1%.

من العوامل التي تصنع سوقا مالية جيدة هو انخفاض تكاليف التداول كنسبة من كل صفقة إلى أدنى مستوى ممكن لها، وهذا ما يوصف بالكفاءة الداخلية أو التشغيلية (Internal Efficiency).
فالأسواق المالية تتباين في خصائصها من بلد إلى آخر، فهناك الأسواق الناضجة والكفؤة في الاقتصاديات المتطورة والصاعدة، وهناك الأسواق الضعيفة والضحلة وغير الكفؤة في معظم الاقتصاديات النامية.

وقد شملت الأدبيات المنشورة حول هذا الموضوع على العديد من المتطلبات والاشتراطات الضرورية لتطوير أداء الأسواق المالية إلى المستوى الذي تستطيع معه تحقيق الأهداف المرجوة منها على أفضل وجه.

السلبيات المتوقعة إذا لم تطور أسواق المال الخليجية 

"
أسواق المال في دول مجلس التعاون الخليجي لا تزال صغيرة الحجم وضيقة ولا تتمتع بدرجة مقبولة من السيولة ولا التنوع.
"
لا تزال درجة تحقيق أهداف إنشاء أسواق دول مجلس التعاون الخليجي للأوراق المالية (كغيرها من الأسواق العربية) متواضعة، بالرغم من التطور الذي حدث على أدائها في الأعوام الماضية.

فلم تنجح هذه الأسواق بعد في حشد المدخرات المحلية والأجنبية وتوظيفها على شكل استثمارات في الأسهم في الاقتصاد المحلي على أسس تنافسية، وهو الهدف الأول والأساس من وجودها.

وكما أنها لم تنجح بعد في تصويب العادات والممارسات الاستثمارية التمويلية للأفراد والمؤسسات على حد سواء، ولم تنجح أيضا في خلق حالة مرضية من الوعي والرشد الاقتصادي لدى عامة المواطنين.

القصور في تحقيق أهداف السوق
وتتجلى الهوة بين المستهدف والمتحقق في هذا المجال في العديد من المؤشرات والمعطيات التي تم ذكرها في الفقرات السابقة. ومن أهم أسباب هذا القصور في تحقيق أهداف السوق بما يلي:

أن أسواق المال في دول مجلس التعاون الخليجي لا تزال صغيرة الحجم وضيقة ولا تتمتع بدرجة مقبولة من السيولة ولا التنوع. وقد يكون ذلك بسبب حداثتها من جهة ونتيجة لعوامل ثقافية واجتماعية تؤثر على نمط ملكية الشركات وتنظيمها وعدم إدراج أسهمها للتداول في السوق من جهة ثانية.

الخلل في هيكلة الأسواق المؤسسية. فما تتميز به هذه السوق هو قلة عدد المؤسسات الممارسة لعمليات التداول، وضعف صناعة السوق وتغطية الإصدارات، والافتقار إلى الأدوات المالية (الاستثمارية) الحديثة واقتصارها على الأسهم وأحيانا السندات فقط، ونقص المعلومات وعدم تدفقها إلى المستثمرين بالكمية والكيفية الملائمتين مما يؤثر على عدالة عمليات التداول وعدم كفاية التسعير. كما أنه لم يتم بعد تحديد متطلبات الإفصاح عن الإدراج أو في التقارير المالية الدورية، ولم يجر بعد تطوير مستوى مهنة المحاسبة والتدقيق من حيث تشريعاتها ومعاييرها ومؤسساتها. كما أنه لم يجري بعد تنشيط صناعة نشر المعلومات عن أداء السوق أو الشركات المدرجة فيها، بالشكل المهني.

الخلل في هيكل الأسواق القانونية والتنظيمية. حيث لا تزال الأخيرة تعمل بقانون فيه الكثير من الثغرات -رغم وجود هيئات رقابية مستقلة تضمن حسن سير عملها- وبدون تشريعات حديثة تسمح لأعضاء السوق بتطوير أدوات مالية جديدة. فالمطلوب هو توفير الغطاء القانوني لتطوير سوق للسندات، وتفعيلة بشكل نشيط في المرحلة الأولى، وآخر للمشتقات المالية في مراحل متقدمة.

لا زالت هناك تشريعات وقوانين لإدارة الاقتصاد الخليجي لم يجر تحديثها ومنها قانون الشركات وقانون البنوك وقانون الضرائب وغيرها. حيث لا زال الاقتصاد الخليجي يعاني من اختلالات هيكلية سببها الأزمات المالية والانفتاح على الأسواق العالمية بشكل غير مدروس، ولتعارض القوانين والتشريعات حسب كل دولة ووفق القانون لدول مجلس التعاون الخليجي.
هذه الملاحظات التقيمية تكشف عن وجود قصورات متعددة إما في بيئة عمل الأسواق أو في هياكل الأسواق نفسها. وتستدعي هذه الملاحظات الوقوف عندها مليا من قبل الأطراف ذات العلاقة بالسوق بهدف تصويب الممكن من هذه القصورات إذا ما أردنا للسوق أن تلعب الدور الاقتصادي المأمول منها في المرحلة المقبلة.

وتزداد أهمية هذا الدور ونحن على أعتاب فرصة إصدار عملة خليجية موحدة مستقلة في إطار الترتيبات الاقتصادية النهائية، فتقع على أجهزة الدول الخليجية المختصة مسؤولية استكمال البنيان التنظيمي والقانوني للأسواق من جهة، وتهيئة المناخ الاستثماري العام من جهة أخرى، وعلى إدارة الأسواق وفعاليات القطاع الخاص استكمال البنية المؤسسية للسوق وتهيئة أفضل السبل لتنشيط وتعميق التداول فيه.

كيفية التغلب على أوجه الخلل
وللتغلب على أوجه الخلل في الأسواق المالية بدول مجلس التعاون الخليجي تمهيدا لإصدار العملة الخليجية الموحدة يستلزم لها متطلبات أساسية ومن هذه المتطلبات والتي تلقي قبول عالمي واسع يمكن إجمالها بما يلي:

بيئة سياسية مستقرة: يتصف المستثمرون عموما بالحساسية الشديدة تجاه حالات عدم التأكد والغموض بما يخص مستقبل الوضع السياسي في البلد.

بيئة اقتصادية مستقرة: تتوفر هذه البيئة من خلال تبني سياسات مالية ونقدية محفزة للاستثمار الخاص. فيجب أن تتيح هذه السياسات المجال لقوى العرض والطلب لتحديد أسعار الفائدة أو العائد دون تدخلات مباشرة.

إطار قانوني وتنظيمي ملائم: تنفرد السوق المالية بخاصتين عن سوق السلع أو الخدمات يعززان من أهمية وجود التشريعات القانونية والتنظيمية الحصيفة نصا وتطبيقا في نجاح السوق في تحقيق أهدافه المرجوة. فالخاصية الأولى هي سهولة وسرعة انتقال عدوى الفشل أو الانهيار بين المؤسسات المكونة للسوق أو المرتبطة بنشاطه مما قد يعرض سلامة النظام المالي برمته للخطر، وهذا ما يعرف بالخطر النظامي (Systematic Risk). أما الخاصية الثانية فهي عدم التماثل أو التناظر في المعلومات المتاحة للمشاركين في نشاط السوق (Information Asymmetry).

الجاهزية المؤسسية والتحتية للسوق: يتكون البنيان المؤسسي والتحتي للسوق من جميع النظم والإجراءات والمؤسسات التي تكون وظيفتها تسهيل وتسيير تنفيذ صفقات التداول وحفظ وإيداع الأوراق المالية ونقل ملكيتها وتسوية المدفوعات بين أطراف العلاقة.
آفاق التطور في الأسواق المالية الخليجية 

"
أحد أسباب ضعف القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الخليجي كان في الماضي ولا زال هو غياب مصادر التمويل طويل الأجل للقطاعات الحقيقية.
"
كما أسلفنا سابقا، يبدوا أن هناك إجماعا في الأوساط المهتمة حول أهمية الدور الذي يمكن لسوق الأوراق المالية أن يلعبه في مسيرة التنمية الاقتصادية المستدامة لأي بلد، ودول مجلس التعاون الخليجي قطعا لن تكون الاستثناء. بل على العكس من ذلك، فخصوصية الوضع بدول الخليج قد تضفي على هذا الدور أهمية جديدة ـوتقدم مزيدا من الاعتبارات والمسوغات ليس فقط لإنشاء هذه الأسواق وإنما أيضا لاتخاذ كافة التدابير اللازمة لتطويره.

ويمكن تلخيص أبرز هذه المسوغات والاعتبارات على النحو التالي:

أولا
على الرغم من التوسع الملحوظ الذي يتمتع فيه القطاع المالي في دول الخليج منذ العام 1985، فقد بقي حجم الائتمان الممنوح محدود وفي معظمة قصير ومتوسط الأجل ولا يفي بأي حال بالإحتياجات التمويلية للمشاريع الاستثمارية الإنتاجية التي تعتبر بمثابة المحرك الرئيسي لعجلة التنمية.

ومن هنا يكون لسوق الأوراق المالية دور مأمول أكبر في حشد المدخرات المحلية والأجنبية وتوجيهها على شكل أدوات استثمارية متنوعة لتمويل الأنشطة الإنتاجية طويلة المدى وكبيرة الحجم.

ويذكر أن أحد أسباب ضعف القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الخليجي كان في الماضي ولا زال هو غياب مصادر التمويل طويل الأجل للقطاعات الحقيقية، وبالتالي هناك حاجة ماسة إلى هذا النوع من التمويل من أجل بناء تراكم رأسمالي يساعد في تحقيق التنمية وفي وضع الاقتصاد الخليجي على مسارات نمو أعلى مما هو علية حاليا.

ثانيا
حتى لو تطور الأداء الائتماني والاستثماري للقطاع المالي والمصرفي لدول الخليج، فإن حجم احتياجات عملية تنمية الاقتصاد الخليجي من الموارد المالية كان ولا زال يفوق بكثير إمكانيات هذه البنوك، فحسب البرنامج التنموي 2004-2010 الصادر عن صندوق النقد العربي في العام 2002 والتقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية فيما بعد، إن حجم الموارد المالية اللازم استثمارها في أوجه مختلفة في الاقتصاد الخليجي لأغراض التنمية تقدر بمئات مليارات الدولارات.

ومن المتوقع أيضا أن يأتي جزء كبير من هذه الموارد على شكل استثمارات من القطاع الخاص. وهذا يتطلب وجود سوق مالية كفؤة ونشطة تستقطب رؤوس الأموال المحلية والوافدة وتوظفها على أسس تنافسية في خدمة جهود التنمية الجارية.

ثالثا
إن تأسيس وتطوير أسواق الأوراق المالية سيوفر بدائل استثمارية متنوعة أمام الوحدات الادخارية في الاقتصاد، بعدما كان أكثر من ثلثي إجمالي الاستثمار الخاص يذهب لقطاع الإنشاءات.

وفي هذه الحالة فإنه سيتم التشجيع على الادخار وتوسيع قاعدة المستثمرين لتشمل قطاع واسع من المواطنين بصرف النظر عن حجوم مدخراتهم، وتمكن البنوك أيضا من توظيف جزء من ودائعها في محافظ استثمارية متنوعة ومحسوبة المخاطر وبالتالي زيادة دورها التنموي في الاقتصاد.

رابعا
توفر أسواق الأوراق المالية لدول مجلس التعاون الخليجي الآليات المناسبة لتسهيل جذب الرساميل الخليجية والأجنبية من الخارج للمشاركة في بناء اقتصاد الدولة العتيدة.

وهذا الأمر يعد في غاية الأهمية ولا سيما أن حجم الادخارات المحلية لن تفي بأي حال من الأحوال بمتطلبات التنمية من الموارد المالية. فتقدر نسبة الادخارات الخليجية المحلية بحوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي، أي بحوالي 5000-10000 دولار سنويا. فإذا ما قورنت هذه الادخارات بالاحتياجات التمويلية للاستثمار الخاص والمقدرة بحوالي 100 مليار دولار سنويا خلال الخمس سنوات القادمة لكل دولة من دول المجلس ناهيك عن الاحتياجات التمويلية للإنفاق الاستثماري العام والتي تم توفير معظمها حتى الآن على شكل مبيعات نفطية، فإن ذلك يدلل بوضوح على أهمية استقطاب الرساميل الخليجية في الخارج وكذلك بعض الاستثمارات الخاصة العربية والأجنبية. ولا شك بأن السوق المالية هي أهم القنوات التي ستتدفق من خلالها هذه الرساميل الاستثمارية إلى دول المجلس.

أهمية تطوير الأسواق تحضيرا لإصدار العملة الموحدة 

"
وجود سوق مالية متطورة سيرفع من قدرة الاقتصاديات الخليجية على امتصاص التأثيرات المحتملة لأية أزمات أو تصدعات محلية أو خارجية.
"
فقد سبق الحديث باستفاضة عن أوجه الانتفاع المحتملة من السوق في مسيرة التنمية الاقتصادية المحلية، وعن أن قدرة السوق على الإسهام في الحياة الاقتصادية للبلد تتوقف إلى حد كبير على سلامة واستقرار المناخ الاستثماري بشكل عام أولا، وعلى مستوى تطور هياكله المختلفة ثانيا.

فالحاجة لتطوير أسواق الأوراق المالية لدول مجلس التعاون يجب أن تأتي إذا في إطار الجهود المطلوبة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني الخليجي ككل، عن طريق إحداث الاستقرار الاقتصادي والتنمية المستدامة. وكلما زادت مستويات الاستقرار ومعدلات التنمية في الاقتصاد الخليجي، كلما تحققت ظروفا أفضل لإصدار النقد ولأن تتخذ القيادات السياسية القرار السياسي بهذا الشأن. وفي هذا السياق العام تبدو العلاقة بين مستوى تطور الأسواق المالية والتحضير لإصدار العملة الخليجية الموحدة علاقة هامة جدا وان كانت غير مباشرة.

ويمكن تحديد عدد من أوجه العلاقة المباشرة والخاصة بين الحاجة لتطوير الأسواق والاستعداد لإصدار العملة وذلك على النحو التالي:

أولا
وجود سوق مالية متطورة سيعزز من قدرة البنوك المركزية الخليجية على إدارة السياسة النقدية من خلا استخدام لعمليات السوق المفتوحة كأحد أهم الأدوات غير المباشرة للتحكم بعرض النقد، وبالتالي المحافظة على استقرار سعر صرف العملة الخليجية الموحدة.

ثانيا
وجود أسواق مالية متطورة سيعزز من فرص اقتصادات الدول الخليجية على جذب الاستثمارات الأجنبية، وهذا بدوره سيراكم الاحتياطي النقدي بالعملات الأجنبية في خزائن البنوك المركزية الخليجية مما يعزز من قدرة هذا البنوك على المحافظة على استقرار سعر صرف هذه العملة.

ثالثا
وجود سوق مالية متطورة سيرفع من قدرة الاقتصاديات الخليجية على امتصاص التأثيرات المحتملة لأية أزمات أو تصدعات محلية أو خارجية. فنتائج الأزمات الدولية على الاقتصاديات المحلية كانت تتباين درجة حدتها مع مستوى التطور والكفاءة في أسواقها المالية والمصرفية. فالاستخلاصات النهائية من الأزمة المالية الأخيرة في دول العالم تشير إلى ضعف هياكل أنظمة هذه الدول المالية كأحد أهم مسببات الأزمة المالية والنتائج السلبية المترتبة عليها. وعلى ضوء توجهات الانفتاح والتكامل التي تشهدها الأسواق المالية العالمية حاليا في إطار ما أصبح يعرف بالعولمة الاقتصادية، فان هذه المهمة بحاجة لأسواق مالية متطورة تزداد إلحاحا.

الخلاصة 

قبل الوصول إلى الإصدار الفعلي للعملة الخليجية الموحدة يجب إنجاز جملة من الترتيبات الاقتصادية والقانونية والفنية، ومما لا شك فيه بأن من بين هذه الترتيبات ما يتعلق بتطوير أسواق الأوراق المالية لدول مجلس التعاون الخليجي بصفته أحد أهم حلقات الاقتصاد. فحركة الاقتصاد لا تتم بمعزل عن اتجاه واتساق حركة جميع حلقاته، وإن الخلل في أداء أي واحدة من هذه الحلقات يؤدي بالضرورة إلى ضعف ما في حركة الاقتصاد الكلي، وبالتالي عدم استقرار في قيمة العملة.
_______________


المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

1 التعليقات :

Entrümpelung يقول...

موضوع ممتاز جدا شكرا لكم

إرسال تعليق