للتنبؤ بوقت حدوث الدورات الاقتصادية دور مهم في التقليل من آثارها السلبية، خصوصاً بالنسبة للمستثمرين في الأسواق المالية.
لذلك فقد عمل الكثير من الباحثين على محاولة فهم مسببات الدورات الاقتصادية، أو ما هي العوامل التي تسبق عادة أي تراجع اقتصادي؟
من هذه المحاولات مثلاً البحث عن علاقة (مؤشر) تربط بين نهائي كرة القدم الأمريكية The Super Bowl indicator وبين الوضع في الأسواق المالية، حيث يتنبأ هذا المؤشر بأنه إذا هزم فريق من الرابطة الوطنية NFL فريقاً من الرابطة الأمريكية، فإن تلك السنة ستكون سنة جيدة للأسواق المالية.
وعلى الرغم من أن العلاقة بين هذا المؤشر وبين أداء الأسواق المالية تعد جيدة، إلا أن هذا المؤشر لا يستند إلى منطق إحصائي واقتصادي دقيق. أيضاً هناك مؤشرات موسمية مثل مؤشر كانون الثاني (يناير)، مؤشر نهاية الأسبوع، ومؤشرات أخرى تتعلق بالانتخابات الرئاسية الأمريكية أو بانتخابات الكونجرس، وعلى الرغم من أن لهذه المؤشرات تفسيرات اقتصادية صحيحة، إلا أن تلك المؤشرات لا تفلح كثيراً في تفسير التغيرات في الأسواق المالية وفي التنبؤ بمسار الدورات الاقتصادية.
إذ تفقد تلك المؤشرات مصداقيتها حين تصبح معروفة لدى جميع الناس. لكن مؤشر ناطحات السحاب Skyscrapers Index يختلف عن هذه المؤشرات سواءً من حيث منطقه الاقتصادي أو من حيث اتساع مجال تطبيقه حيث لا يتعلق فقط بطبيعة اقتصاد معين كالاقتصاد الأمريكي لكن يمكن تعميمه على أي اقتصاد في العالم.
ففي عام 1999 قام الباحث الاقتصادي أندرو لورنس Andrew Lawrence ببناء مؤشر لناطحات السحاب، والذي هدف إلى إيجاد علاقة بين توقيت بناء أطول ناطحات سحاب في العالم وبين توقيت حدوث الدورات الاقتصادية، حيث يشير إلى أنه سبق كل انهيار مالي اقتصادي رئيسي عملية بناء لناطحة السحاب الأعلى في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال صمم مبنى كرايسلر عام 1928 ووضع حجر الأساس له في التاسع عشر من أيلول (سبتمبر) عام 1928 وحدث انهيار الثلاثاء الأسود في التاسع والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1929، وافتتح المبنى في الثامن والعشرين من آذار (مارس) 1930.
وبشكل عام، يلاحظ أن الإعلان عن بدء بناء ناطحة السحاب الأعلى يأتي في نهاية دورة انتعاش اقتصادي، وعندما يكون معدل البطالة منخفضا والنمو الاقتصادي عالياً. وهذا يتبع بتراجع حاد في الأسواق المالية وكساد اقتصادي وزيادة حادة في معدل البطالة، وبعد ذلك يتم اكتمال بناء ناطحة السحاب في المرحلة الأولى من عملية التصحيح الاقتصادي.
وتميز المؤشر بقدرة جيدة على التنبؤ بالدورات الاقتصادية، حيث سبق الاضطراب الاقتصادي في العام 1907 ببناء كل من: مبنى سينجر Singer الذي اكتمل بناؤه عام 1908، ومبنى الميتروبوليتون Metropolitan Life الذي اكتمل بناؤه عام 1909. أيضاً يظهر المؤشر قدرة كبيرة في توقع الكساد الاقتصادي الكبير، حيث تزامن ذلك مع بناء كل من: برج الوول سترييت the Wall tower 1929، ومبنى كرايسلر Chrysler عام 1930، ومبنى الإمباير ستايت Empire State عام 1930. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك استثناءات فيما يتعلق بقدرة المؤشر على التنبؤ. لذلك فالتساؤل يتعلق بمدى قدرة المؤشر على التنبؤ، مثل عدم قدرته على التنبؤ بالكساد الذي حدث في كل من الأعوام: 1920 و1937 و1981.
لكن ما هي طبيعة العلاقة بين بناء ناطحة سحاب وبين الدورة الاقتصادية؟ هل يعني ذلك أن يؤدي بناء ناطحة سحاب إلى انهيار اقتصادي محتمل. لورنس يشير إلى أن هناك عوامل تحدث ارتباطا بين بناء ناطحات السحاب وبين الدورة الاقتصادية مثل: فائض الاستثمار Overinvestment، التوسع في القاعدة النقدية أو عرض النقود Monetary Expansion، وأخيراً المضاربة Speculation. أما مارك ثورنتون Mark Thornton فيشير في ورقة بحثية تتعلق بما توصل إليه لورنس إلى أن هناك مساراً اقتصادياً عاماً رافق كل المشاهد التاريخية لبناء ناطحات السحاب تميز بالتالي: أولاً فترة من الأموال الرخيصة تقود إلى توسع اقتصادي كبير وانتعاش في الأسواق المالية وتزايد في الاستثمارات الرأسمالية.
هذه الاستثمارات الرأسمالية تأخذ طريقها إلى استثمارات في تقنيات جديدة لتفتح آفاق صناعات جديدة ولتعيد هيكلة الصناعات القائمة تقنياً. وعملية التحول التقني للصناعة تترافق مع البدء في بناء ناطحة السحاب، التي يستتبعها بعض الإشارات السلبية عن الأداء الاقتصادي تتمثل حسب (ما أرى) في ارتفاع في معدلات التضخم تؤدي إلى رفع تكلفة التمويل ومن ثم إلى ارتباك داخل الأسواق المالية.
وهذا الأمر يستتبعه حدوث التراجع الاقتصادي الحاد، أي أن قرار البدء في بناء ناطحة سحاب جديدة يترافق عادة مع انخفاض في أسعار الفائدة وانتعاش بالطبع في النمو الاقتصادي. وحين يتم البدء في المشروع يكون هناك طلب مرتفع في جميع القطاعات المتعلقة بقطاع المقاولات سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يؤدي إلى ضغط على الأسعار ومن ثم رفع أسعار الفائدة وتراجع في الأنشطة الاقتصادية الأخرى سواءً في الأسواق المالية أو غيرها، ما يؤدي إلى حلقة جديدة من التراجع الاقتصادي الحاد.
وكما يشير ثورنتون، فإنه قد يكون من السهل رفض مؤشر ناطحات السحاب لتوقع حدوث الدورات الاقتصادية مثله في ذلك مثل المؤشرات الأخرى. لكنه يرى أن هذا المؤشر يحمل في طياته مميزات تماثل مميزات نظريات الدورات الاقتصادية الأخرى، والمتمثلة في أن عملية بناء ناطحات السحاب تمثل علامة مميزة للقرن العشرين، حيث حلت ناطحات السحاب محل المصانع والسكك الحديدية التي مثلت العلامة المميزة لاقتصاد القرن التاسع عشر بشكل مشابه للطريقة التي حل بها قطاع الخدمات والمعلومات محل الصناعة الثقيلة.
فهي تمثل علامة فارقة ترتبط بالإدارة الاقتصادية المتميزة مما يجعلها تبرز فجأة مع كل نجاح اقتصادي في كل مكان في العالم، في نيويورك أولاً وشيكاغو ثانياً وكوالالمبور ثالثاً والصين رابعاً ودبي أخيراً. لذلك يجب ألا يكون مفاجئاً أن ترتبط كل ناطحة سحاب جديدة بدورة اقتصادية جديدة لتعكس عملية التصحيح لذلك الاقتصاد الذي نشأت فيه.
الكاتب :- فهد الشثري
0 التعليقات :
إرسال تعليق