تابع جديد المدونة عبر:

النمو شيء والتنمية شيء آخر

لعل من أكثر المصطلحات استخداماً من قبل الساسة ومن غيرهم وأكثرها شيوعاً في عالم الإعلام هذه الأيام، خصوصاً في هذا الجزء من العالم هو مصطلح «التنمية المستدامة»، ما الذي يعنيه هؤلاء بهذا المصطح، لكن من المؤكد أن الكثير ممن يستخدمون هذا المصطلح حتماً لا يقصدون الأمر عينه، ولا يشيرون الشيء ذاته، فنرى مثلاً من يتحدث على التنمية المستدامة في معرض حديثة عن البيئة وهمومها.


 وهناك من يشير إلى التنمية المستدامة عند حديثة عن خطة اقتصادية ما، وهناك من يستخدم مصطلح التنمية المستدامة للإشارة إلى برنامج من البرامج الاجتماعية أو الثقافية، قد يكون كل من سبقت الإشارة إليه محقاً بصورة أو بأخرى في استخدام مصطلح «التنمية المستدامة»، وذلك ببساطة لأن لهذا المصطلح مدلولات مختلفة فقد يكون للمصطلح مدلول بيئي، وقد يكون له مدلول اقتصادي، وقد يكون له مدلول اجتماعي وثقافي، إلا أنه وفي المقابل يوجد هناك لدى الكثير من المسؤولين خصوصاً في منطقتنا العربية وفي غيرها من مناطق العالم الثالث خلط، قد يكون مقصود أو غير مقصود، بين التنمية الاقتصادية المستدامة بمفهومها الشامل والواسع، وبين النمو الاقتصادي بمفهومه المحدد والضيق.


 لكن ما الفرق بين التنمية والنمو؟


وما هي عناصر التفرقة بينمها؟


 وما هي مخاطر الخلط المقصود أو غير المقصود بينهما ؟


 نظراً لأهمية التنمية الاقتصادية فإن فرع مستقل من علم الاقتصاد قد خرج للتعامل مع الجوانب المختلفة للتنمية الاقتصادية يعرف بـاقتصاد التنيمة (Economics of Development) وظيفته التعامل والبحث في الجوانب المختلفة لعملية التنمية الاقتصادية سواء من حيث التكلفة أو الاستدامة أو المقومات أو الشروط والمتطلبات، وذلك من خلال ما ظهر وتطور من النظريات المختلفة، هذا من الناحية النظرية الأكاديمية، أما من الناحية العملية، فإن الكثير من الحكومات استطاعت تبني خطط طويلة الأمد للتنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة، ولعل قصص النجاح في ما يتعلق بالتنمية كثيرة ومتعددة، خصوصاً في آسيا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.


 إبتداءاً باليابان مروراً بما أصبح يعرف بالنمور الآسيوية وانتهاءاً بالقصة الأبرز والتي ما تزال في طور الصناعة ألا وهي قصة التنمية في الصين التي أطلقها عراب التنمية الاقتصادية الصينية دينغ تشاو بينغ في العام 1979، هذا إضافة إلى قصة تركيا التي بدأت مع حزب العدالة والتنمية الذي كان له نصيب من اسمه فكان أساساً إرساء العدالة ووسيلة تحقيق التنمية في تركيا، فقد استطاع حكومة العدالة والتنيمة تحقيق إنجازات اقتصادية عجزت الحكومات المتعاقبة وعلى مدى ثمانين عاماً عن بلوغ مد العدالة والتنمية ولا نصيفها، ما يعني أن هذه الدول قد عرفت سر التنمية الاقتصادية الكبيرة الذي يميزها عما سواها من مفاهيم خاصة النمو الاقتصادي بمفهومه الضيق.


إن التفرقة من الناحية النظرية على الأقل بين التنمية الاقتصادية والنمو الاقتصادي ليس بالأمر العسير على البحث أو الشرح أو الفهم، فمن ناحية يعتبر النمو الاقتصادي مفهوم أو مصطلح فني له دلالة فنية معينة، وهو من هذه الناحية يعني بكل بساطة الزيادة أو النقصان في ما يتم إنتاجه من سلع وخدمات في دولة ما بين سنة تعرف بسنة الأساس والسنة التي تليها وتعرف بسنة القياس، وقد يكون النمو كما أشرنا بالموجب، إذا كانت هناك زيادة في ما تم إنتاجه من سلع وخدمات كما يمكن أن يكون بالسالب إذا كان هنا تراجع أو نقصان فيما تم إنتاجه من سلع وخدمات، وهو ما يعبر عنه فنياً بالنمو السالب أو بالتراجع الاقتصادي أو الركود الاقتصادي، وبذلك يكون النمو حالة وصف فني ظاهري لاقتصاد الدول.

 فإما أن يكون الاقتصاد قد نما أو تراجع وذلك دون الخوض أو تحديد أسباب التراجع أو تفاصيله، وللنمو الاقتصادي بهذا المفهوم أسباب متنوعة ومختلفة فقد يكون نتيجة لميزة جيولوجية كالموارد والثروات الطبيعية كما هو الحال مع الدول الخليجية النفطية أو نتيجة لميزة جغرافية كالموقع الجغرافي المميز أو المناخ الموائم أو الوفرة المائية كما هو الحال مع مصر والسودان كما يمكن أن يكون نتيجة لسياسات وخطط تنموية ناجحة كما هو الحال مع اليابان ودول جنوب شرق آسيا.

هذا في ما يتعلق بالنمو الاقتصادي أما عن التنمية الاقتصادية بمفهومها الشامل فهي عبارة عن عملية شاملة ومتكاملة ونتيجة لرؤية وسياسة وطنية تركز على بناء القدرات وتنمية الإمانيات في الاقتصاد والتي تأتي الإمكانات البشرية في مقدمتها، كما أن الفارق المهم بين التنمية والنمو هو أن التنمية تقوم على بناء الإمكانات ومن ثم استغلالها في حين أن النمو يكون نتيجة اسغلال الإمكانات سواء الإمكانات المكتسبة أو الكامنة، وبذلك يمكن أن تشمل التنمية النمو وليس العكس بمعنى أن كل النمو يمكن أن يكون أحد نتائج وتجليات التنمية.

 وليس كل نتائجها، كما أن التنمية بالمعنى الذي ذكر يعنى أنها عملية تقوم على الاستمرارية، في حين أن النمو لا يقوم ولا يضمن ذلك، والنمو القائم والمعتمد على استغلال الموارد الطبيعية النافذة كالنفط (مثلا)ً خير دليل على النمو غير القابل للاستمرار، في حين أن عملية التنمية أو النمو القائم على التنمية كتلك التي شهدتها اليابان في القرن قبل الماضي خلال عهد الإمبراطور متسوهيتو قد ضمنت استمرارية هذا النمو إلى يوم الناس، هذا أي ما يزيد على القرن ونيف من الزمان والمرشح للاستمرار في المستقبل إن أرادت مشيئة الله ذلك قد يكون للخلط بين التنمية الاقتصادية والنمو الاقتصادي نتائج سلبية، بل قد يكون لذلك نتائج خطيرة ليس أقلها هدر الموارد سدى وتضييع الوقت والجهد دون طائل حقيقي.


بالرغم من كون مفهوم التنمية والنمو الاقتصادي مفهومان مختلفان، فإنهما ليس متعارضان بالضرورة، بمعنى أن الاهتمام والتركيز على النمو الاقتصادي لا يكون على حساب التنمية دائماً، لكن في بعض الأحيان قد يكون النمو الاقتصادي متعارض بل ويكون تحقيقه على حساب التنمية الاقتصادي الشاملة، فعلى سبيل المثال يوجد في علم اقتصاد التنمية مفهوم يعرف بـ«المرض الهولندي» (Dutch Disease).

 وهو عبارة عن نظرية تقول أن اكتشاف مورد طبيعي غالباً ما يكون له تأثير سلبي على التنمية والتنافسية، ومن ثم على الاقتصاد ككل عوضاً عن أن يكون لذلك الاكتشاف تأثير إيجابي نتيجة الموارد المالية الإضافية التي يوفرها للحكومة وللاقتصاد الوطني ككل، وهذه النظرية كانت نتيجة دراسة تناولت وضع الاقتصاد الهولندي الذي أصابته حالة من التراخي والتراجع في أدائه سواء من حيث الإنتاجية أو التنافسية بعد أن تم اكتشاف احتياطات كبيرة من النفط والغاز في بحر الشمال.

 وذلك بالرغم من معدلات النمو العالية التي تحقق في البداية نتيجة عوائد النفط والغاز الإضافية، من هذه الناحية يتبين أن النمو الاقتصادي يمكن أن يكون على حساب التنمية الاقتصادية التي تركز على رفع إنتاجية وتنافسية الاقتصاد الوطني، وهو ما أثبتته حالة الاقتصاد الهولندي، كما أن الخلط بين التنمية والنمو يمكن أن يؤدي إلى توجيه الموارد المالية والبشرية إلى قطاع معين في الاقتصاد نتيجة لتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية وسريعة لكن يتبن أنها غير مستدامة الأمر الذي يؤدي إلى تراجع سريع في النمو مع بقاء معدلات التضخم التي عادة ما تصاحب النمو الاقتصاد عالية ما يدخل الاقتصاد في حالة من الركود وعدم التوازن الذي قد يستمر لفترة طويلة.

 وتكون بذلك المحصلة هو هدر الموارد وتضييع الوقت وتفويت الفرص في تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، ولعل تجربة دبي العقارية تقف شاهداً على خطورة الخلط بين النمو الاقتصادي بمفهومة الضيق الذي يعتمد على الإمكانات الجاهرة أو حتى المستوردة والذي قد يكون غير قابل للاستدامة وبين التنمية الاقتصادية الشاملة التي تركز أولاً على بناء القدرات والإمكانات التي تأتي القدرات البشرية في مقدمتها من خلال التعليم والتدريب والبحث والتطوير، ومن ثم استغلالها لتحقيق نموي اقتصادي عال ومستدامة كما فعلت اليابان وبعدها دول عدة تختلف في أعراقها وثقافاتها ودياناتها لكنها تتفق في شيء واحد هو أنهم جميعاً استطاعوا اكتشاف سر التنمية الأزلي ألا وهو الإنسان.


الكاتب :- ناصر بن غيث

1 التعليقات :

غير معرف يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

إرسال تعليق