بقلم - د . غسان قلعاوي
هناك توجه نحو إعادة النظر في المعايير والتطبيقات المحاسبية نظرا لما ألمّ بثوابت المحاسبة من افتآت باسم المرونة وتلبية احتياجات السوق (الأسواق المالية) من جهة، ومن التستر خلف الاحالة إلى المعايير الدولية للمحاسبة وكأنها نظام محاسبي موحد متفق عليه دولياً في حين نرى أن تلك المعايير بعيدة كل البعد عن أن تمثل نظاماً محاسبياً موحداً وذلك من جهة أخرى وقد ألمحنا إلى ملامح الافتآت على أهم ثوابت المحاسبة، وسنحاول هنا تأكيد رأينا في عدم سلامة الاحالة إلى المعايير الدولية للمحاسبة .
حقيقة الأمر أنه لا يمكن لمختص في المحاسبة المالية أو لمتعامل معها أو مستخدم لبياناتها أن ينكر مدى أهمية توحيد نظم وقواعد المحاسبة المعمول بها، فإن تم ذلك التوحيد على المستوى الدولي تكون المحاسبة بذلك قد حققت حلمها الأكبر كعلم انساني تؤهله وحدة التعبير لتأكيد دوره واستمراره حافظاً للحقوق، مفصحاً عنها، منصفاً للمتعاملين في دنيا المال والأعمال، وحدة التطبيق في المحاسبة مطلوبة نظراً لما أكدناه في زاويتنا السابقة من أن الأصول أو”المبادئ” المحاسبية المقبولة قبولاً عاماً (GAAP) تتضمن بعض الفرضيات والأسس التي قد تتيح تطبيقات متعددة وأنها إن استخدمت دون نظام يوحدها لغدا معها المحاسبون وكأنهم يتكلمون لغات مختلفة أو على الأقل يصلون في عملهم إلى نتائج متباينة لا يمكن معها اعتماد بياناتهم في التحليل والمقارنة واتخاذ القرارات . . الخ
لذلك كانت النظم الموحدة للقواعد أو المعايير المحاسبية مطلبا محاسبيا ملحا منذ ظهور المحاسبة كمهنة يمتهنها فريق متخصص من الناس وكعلم له كيان معترف به في منتصف القرن التاسع عشر .
ومع أنه لا يمكن إنكار ما يؤكده المسؤولون في مجلس المعايير الدولية للمحاسبة من “ان التطور السريع للأسواق المالية العالمية يتطلب الآن اتساقا دوليا في المعايير المحاسبية وأساليب التدقيق”، كما تتضح الحاجة إلى لغة مالية مشتركة في جميع أرجاء العالم وإلى إطار دولي لإعداد التقارير المالية، إلا أن الاتساق الدولي المطلوب يجب ألا يأتي على حساب الحرص على سلامة مهنة المحاسبة، لذلك يرد التساؤل هنا حول مدى اقتراب المعايير الدولية للمحاسبة وإعداد التقارير المالية حالياً من مستوى التوحيد المحاسبي ودرجة تمثيلها لتلك اللغة المالية المشتركة التي يطمح إليها المحاسبون .
لقد سبق أن أبدينا أن المعايير الدولية لا يمكن أن تمثل نظاماً دولياً موحداً للمحاسبة قابلاً للتطبيق على الصعيد العالمي، وإن كانت جديرة بأن تعنون باعتبارها موسوعة محاسبية تفيد الباحثين أكثر منها قواعد أساسية تمثل لغة واحدة يستخدمها المطبقون .
فقد اتت القواعد أو المعايير الدولية للمحاسبة بمئات من الصفحات، فيها إطار عام لا يمكن اعتباره ملخصا لأحكامها ولا يغني عنها، وفيها معايير استعرضت فيها كل التطبيقات الممكنة ما يؤدي إلى التشتت بدلا من التوحيد، تلته مئات الصفحات من تفسيرات للمعايير تضيف المزيد من الاغراق في التفصيل الذي يتعارض مع مطلب التوحيد المحاسبي، فعلى سبيل المثال تضمن الاطار العام للمعايير (مع أنه الجزء الأقرب من “موسوعة المعايير” إلى التركيز والعمومية) في تحديده لمفهوم قياس عناصر البيانات المالية أنه تحديد القيم النقدية للعناصر المعترف بها، وأن القيم المستخدمة في القياس هي: “التاريخية” أو”الجارية” أو “القابلة للتحقق” أو “الحالية”، وأن القيمة التاريخية هي الأكثر استخداماً!! فهل يعبر هذا الأسلوب (وهو الغالب الأعم في الاطار والمعايير وتفسيراتها)عن توحيد في القواعد المحاسبية المطلوب تطبيقها أم أنه شرح لها وعرض لحالاتها يتيح العديد من التطبيقات ؟
إننا نلاحظ كل ذلك دون أن نُجحف بحق تلك المعايير وقدرها العالي باعتبارها موسوعة عظيمة الفائدة لدراسات وبحوث أصحاب الاختصاص العالي في المحاسبة وكأساس تُبنى عليه القواعد والأنظمة المحاسبية الموحدة التي تضمن الالتزام بالتطبيق الموحد وفق قواعد واضحة موجزة يسهل تطبيقها .
المعايير الدولية جهد علمي كبير لكنها، فيما نرى، لا يمكن أن تكون أو أن تمثل قواعد يمكن تطبيقها على نحو موحد على الصعيد العالمي، لذلك تصبح الإحالة إليه دون تحديد النص المطلوب من المعيار إحالة مضللة لايجوز أن تستخدمها تقارير وشهادات مراقبة الحسابات، ذلك أنه من المعروف أن الأنظمة أو القواعد واجبة الاتباع، تعتمد التعبير الموجز عن قواعدها وموادها ومعاييرها، وتتجنب أسلوب البحث والدراسة والتفسير الذي يترك للوائح تفسيرية أولملاحق تلحق بالأنظمة والقواعد .
لهذا لا يبدو أن المعايير الدولية للمحاسبة وإعداد البيانات المالية قد أفلحت في وضع المبادئ المحاسبية المتفق عليها أو المقبولة قبولا عاما موضع التوحيد، الذي لابد من أن يشكل الهدف الأول من اجتماع اللجان الفنية والخبراء الذين اضطلعوا بصياغة تلك القواعد الدولية منذ سبعينات القرن الماضي، بل يرى البعض (كما في إعلان المنتدى العالمي لتطوير المحاسبة 2001) والمسح المحاسبي الذي تم آنذاك مبرزاً فروقاً جوهرية بين متطلبات المحاسبة الوطنية ومعايير المحاسبة الدولية، وهو مسح محاسبي دولي اجرته اكبر سبع شركات محاسبة في العالم، تحت عنوان “المبادئ المحاسبية المقبولة بشكل عام لعام 2001”، وجد ان هناك تقدما متفاوتا لتحقيق التقارب بين المتطلبات الوطنية ومعايير المحاسبة الدولية، وحوالي ثلث البلدان التي تم مسحها البالغ عددها 62 بلداً تستجيب لتحدي التقارب، وتتبنى جدول أعمال فعال وتغيرات مقترحة للمتطلبات الوطنية، على ان نصف البلدان التي تم مسحها أبلغت عن فروق ملحوظة بين المعايير الوطنية والدولية، إلا أنها لم تطبق أو تقترح معايير جديدة لتقليل الفروق، ونتيجة للتغيرات المهمة التي طرأت على المعايير الدولية التي يتم النظر فيها ستزيد الفروق بين المعايير الدولية والوطنية ما لم تبذل الجهود لتضييق الهوة بينها .
ومنذ ذلك الحين لم تسفر، فيما يبدو، الجهود عن التوصل إلى نظام محاسبي موحد يفيد من المعايير الدولية ويستند إليها ويحرص على عدم الاخلال بالمبادئ المحاسبية المقبولة قبولا عاما ويحافظ على ثوابتها وإننا لنأمل أن تتكلل الجهود الخليجية العربية بالنجاح في تحقيق مثل هذه المبادرة مؤيدة بما لديها من خبرة مكتسبة في متطلبات سلامة السوق (الأسواق المالية) وحاجتها إلى بيانات مالية صادقة تضمنها محاسبة سليمة موحدة القواعد .
* نقلاً عن صحيفة الخليج .
0 التعليقات :
إرسال تعليق