تابع جديد المدونة عبر:

تحليل واقع الاستثمار في الأسواق المالية الدولية

لقد أصبح الاقتصاد العالمي, إزاء الأهمية المتزايدة لرأس المال في صناعة الخدمات المالية بمكوناتها المصرفية وغير المصرفية, أداة تحركها مؤشرات ورموز البورصات العالمية (داوجونز، ناسدك، نيكاي، داكس، كيك...) والتي تؤدي إلى نقل الثروة العينية من يد مستثمر إلى آخر دون عوائق أو حتى عبر الحدود الجغرافية حيث الحركة المستمرة لرؤوس الأموال الباحثة عن الربح أمام فوائضها المتراكمة وتوفير ضمانات لأصحاب هذه الأموال وتنويعها من خلال الآليات التي توفرها الأدوات المالية والتحكم في الأسواق المختلفة. فعلى سبيل المثال لا الحصر أشارت تقارير البنك الدولي إلى أن حجم التعامل(1) على الصعيد العالمي بلغ لسوق (اليورو- الدولار) حوالي (300) مليار دولار في يوم العمل الواحد، أي ما يقارب (75) تريلون دولار في السنة في حين لم يتجاوز حجم التجارة في قطاع السلع والخدمات (3) تريلون دولار حتى أضحت خطراً يهدد اقتصاديات العالم؛ فقد أثبتت تجارب عقد التسعينات من القرن الماضي أن هذه الحركة للكميات الهائلة من رؤوس الأموال كثيراً ما أدت إلى حدوث أزمات وصدمات مالية مكلفة (في المكسيك، النمور الآسيوية، البرازيل، روسيا...) والمتمثلة في:

- المخاطر الناجمة عن التقلبات الفجائية للاستثمارات في الأسواق المالية الدولية وخاصة قصيرة الأجل منها.
- مخاطر التعرض للمضاربات في السوق.

- مخاطر هروب الأموال الوطنية.

- مخاطر دخول الأموال القذرة (غسيل الأموال).

- إضعاف السيطرة على السياسات الوطنية في مجالات السياسة النقدية والمالية.

وهكذا استأثرت القوى العظمى للاستثمار بثروات العالم وأسواقه ساعدها في ذلك ازدهار شبكات الاتصال ونقل المعلومات التي يوفرها التقدم التقني الهائل في ربط الأسواق المالية العالمية مما يسمح للمستثمرين الاستجابة للتطورات التي تحدث في الأسواق بصفة آنية وفورية.

وبسبب ظاهرة التضخم النقدي الذي يعتبر من الخصائص الهيكلية للحياة الاقتصادية الحديثة في شتى دول العالم والذي أدى بدوره إلى ارتفاع التكاليف اللازمة للاستثمار إلى جانب حاجة رؤوس الأموال إلى توسيع نشاطاتها وعدم قدرة الادخارات من الجانب الآخر لتلبية حجم الاستثمارات المطلوبة, فليس هناك من سبيل سوى الأسواق المالية للحصول على الأموال اللازمة لمواجهة ذلك الطلب لتنفيذ الاستثمارات, يتم بواسطتها إجراء الصفقات من خلال قيام المستثمرين ببيع حصصهم أو زيادتها بالشراء... وهكذا نشطت السوق المالية كأداة مالية جديدة, وما رافق ذلك من دعوات لإلغاء التنظيمات القانونية والتشريعية التي تقف في سبيل ترويج اقتصاديات السوق, وممارسة العمليات المصرفية والمالية على نطاق واسع ومن ثم التسريع في حركة تدفق رؤوس الأموال عبر الحدود, مما خلق اتساعاً في نطاق التعامل بالأوراق المالية بأنواعها المختلفة، لتتحول أجزاء من حجم رؤوس الأموال المتداولة إلى المضاربة عالمياً في أسواق العملات والبورصات والأوراق المالية والأسهم والسندات والبيوع المكشوفة؛ الأمر الذي جعل التعامل في الأسواق المالية الدولية يتطلب المراجعة المستمرة للمفاهيم والآثار لا بل والستراتيجيات المتبعة فغالباً ما يتم التعامل في هذه الأسواق ضمن عملية مقصودة تحركها القوى الرأسمالية لتحقيق مصالحها بما في ذلك تحرير التجارة وفتح الأسواق الدولية أمام الانتقال الحر للسلع والخدمات وذلك عن طريق اللاعبين الأساسيين في هذه الأسواق الدولية التي تقود عمليات الاستثمار وإجراءات البيوع والسمسرة والمضاربات المالية المتمثلة في:

أولاً. * الشركات الكبرى عبر الوطنية.

ثانياً. * عمليات غسيل العملة (غسيل الأموال).

أولاً: دور الشركات الكبرى عبر الوطنية. على أثر الازدهار الاقتصادي في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية برزت ظاهرة انتشار ما يسمى بالشركات متعددة الجنسية أو الشركات عبر الوطنية (أغلب هذه الشركات أمريكي، أو أوربي، ياباني) امتدت نشاطاتها إلى أنحاء مختلفة من العالم وأقامت لها فروع وشركات تابعة في الدول المضيفة بحثاً عن فرص أوسع للعمل حتى أضحت تمثل في الوقت الحاضر أهم عوامل تطور النظام الاقتصادي الدولي؛ نظراً لما تتميز به من قدرات واسعة تدفعها للكشف عن فرص الاستثمار واستغلالها وتوسيع نشاطاتها, حتى تجاوز حجم المبيعات السنوية لبعض هذه الشركات مثل شركة (2) جنرال موتورز مثلاً حجم الناتج القومي الإجمالي لكل من سويسرا + الباكستان + جنوب أفريقيا... ومبيعات شركة شل تجاوزت حجم الناتج القومي الإجمالي لكل من إيران + فنزويلا + تركيا... علماً بأن هذه الأرقام تعود إلى ما يزيد على عشر سنوات مضت.

 أي إن أية مقارنة مشابهة تجريها بأرقام اليوم سوف تعطينا تقديرات أضخم بكثير مما أشرنا إليه, سيما وأن هذه الشركات تمارس عملها حرة وليس هناك من حدود لسيادتها الإنتاجية والتوزيعية والتبادلية والتسويقية تساعدها في ذلك شبكة الاتصالات والمعلومات المتطورة والتي أعطتها قوة تكنولوجية وقدرة اقتصادية هائلة؛ الأمر الذي ينطوي على المزيد من هيمنة رأس المال وما يتبعها من سيطرة وقدرة على التلاعب وإعلاء الربح كحافز أساسي من خلال سعيها إلى:

- العمل على خلق بيئة نقدية ومالية تتفق مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي ومنع أية قيود مؤسسية أو قانونية أو إجرائية مفروضة على الأسعار المحلية والعالمية تحرف آلية السوق عن أداء دورها في مجالات التمويل والإنتاج والتجارة والاستهلاك.

- تشجيع الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي من خلال حرية انتقال رؤوس الأموال والتجارة الدولية.

- دعم السوق العالمية الحرة والترويج لها حيث يكون الفاعل الأكبر وبأقوى صورة الشركات متعددة الجنسية العملاقة واللاعبون الكبار في أسواق المال الدولية. من هنا يتضح فن اللعبة في الأسواق المالية الدولية من خلال هذه الشركات وعلى الشكل الآتي:

1. تصاعد اتجاهات وحركات رؤوس الأموال الغربية والشركات من هذا النوع بمساعدة شبكة الاتصالات والمعلومات, يوضح مصادر القوة الهائلة التي تتيح للاحتكارات العملاقة اختراق الأسواق العالمية بما فيها أسواق الأوراق المالية عن طريق تحركات وأنشطة وتفاعلات لزيادة قدرتها على المناورة في التعامل بهذه الأسواق باتباع أسلوب تشجيع المضاربة في البورصات على الأسهم والسندات من أجل تشغيل الكتل المالية الهائلة المتحركة من الأموال ذات الأصول المصرفية والتي تفوق في قيمتها مجموع قيمة التجارة العالمية بما لا يقل عن ثلاثين مرة (من السلع والخدمات المنظورة وغير المنظورة) وهذا يعني أنه إذا كان مجموع قيمة التجارة السلعية على مستوى العالم هو ثلاثة تريليون دولار (كما بينا) فأن حجم الاستثمارات المطروحة في مجال البورصات والأسهم والسندات، وفي النقود الإلكترونية أو بطاقات الائتمان التي يتعاملون بها في تلك الأسواق لا يقل عن (100) تريليون دولار والتي تكون بدورها بعيدة عن سيطرة أغنى البنوك المركزية في العالم... (3).

2- إن تحركات وأنشطة الاحتكارات التجارية والصناعية والمعلوماتية والإعلامية الغربية ذات القدرات المفزعة كانت تتم في اتجاه محاولة تجاوز أو عبور الحدود وتطال السيادة الوطنية(4) للدول والمجتمعات وفيما يعرف بـ(Transborder trends) وقد كان مجال تلك الأنشطة والتحركات ينطلق من إقامة فروع للشركات العملاقة المتعددة الجنسيات لممارسة مثل تلك الأعمال وبالطريقة التي تمليها هذه الشركات, لتسهيل مهمات تحركات القوى الأعظم للهيمنة على اقتصاديات العالم عن طريق الشركات الكبرى كأحد الأساليب المهمة للسيطرة على تدفقات رؤوس الأموال والاستثمارات, والتحكم في مسارات أسواق البورصة في العالم بما فيها أسواق الأسهم والسندات؛ إذ إنها والحالة هذه تعتبر المستفيد من هذه الأسواق وخاصة ما يتعلق منها برؤوس الأموال المستثمرة بالعمليات المالية التي تعكسها آلية العمل في أسواق المال الدولية والتي تتجلى بأقوى صورة في الشركات عابرة الجنسيات العملاقة واللاعبين في الأسواق المالية الدولية.

ثانياً: دور عمليات غسل العملة (غسل الأموال).

غسيل الأموال يعني القيام بعملية استثمار عملة محصلة بشكل غير قانوني من قبل طرف ثالث لطمس هوية مصدرها, علماً بأن مصدر هذه الأموال هو فعل إجرامي... ويتم استغلال هذه الأموال في مجالات قبول الودائع، والحوالات المصرفية، إصدار وسائل الدفع المصرفية، الضمانات والالتزامات المالية، الاتجار لحساب الغير أو للحساب الخاص، التحويل الخارجي، السمسرة النقدية، إدارة المحفظة النقدية، امتلاك وإدارة السندات المالية وغيرها من الأنشطة المصرفية. وتشير البيانات الأولية إلى أن هناك (-,9) تريليون دولار أمريكي من إنتاج العالم ينفق في ما يعرف بـ"اقتصاد الظل" أو الصفقات التي لا تخضع للضرائب ولا تسجل في الدفاتر الرسمية والتي تضم الدخل القانوني غير المسجل للصفقات المدفوعة نقداً من جهة الدخل غير القانوني لنشاطات التهريب والمخدرات وغيرها. ويتم غسيل الأموال على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: توظيف الأموال غير المشروعة على شكل إيداعات بالبنوك والمؤسسات المالية أو شراء الأسهم والسندات.

المرحلة الثانية: إخفاء المصدر الحقيقي للأموال عن طريق أجراء سلسلة من المعاملات المالية.

المرحلة الثالثة: إعادة وضع الأموال غير المشروعة بعد غسلها.

هذا وتعتبر أسواق المال الدولية من أهم المجالات التي تمكن لهذا النوع من الأموال ممارسة نشاطها حيث تصعب متابعتها ومراقبتها أو حتى محاصرتها في هذه السوق نظراً لاندماجها في شبكة الأنشطة المالية والمصرفية التقليدية ويزداد الأمر صعوبة بالنسبة للمدفوعات الإلكترونية المجفرة (بطاقات الائتمان الذكية) وكذلك ما يتعلق بأنظمة الدفع عبر الانترنيت, كما أن غاسلي الأموال لا يهتمون بالجدوى الاقتصادية للاستثمار بقدر اهتمامهم بالتوظيف الذي يسمح بإعادة أو استمرارية تدوير الأموال, وهو ما يشكل خطراً على مناخ الاستثمار وخاصة في الأسواق المالية المتمثلة في أسواق الأوراق المالية من الأسهم والسندات إذ إن حركة الأموال المطلوب غسلها دون مراعاة الربحية ضمن حيز هذه الأسواق سوف يؤدي إلى إرباك السوق وترويج عملية المضاربات ما بين المتعاملين في السوق وخلق حالة من المنافسة غير المتكافئة مع المستثمرين حيث أن عملية غسل الأموال لضخامة مبالغها تؤثر على أسعار الفائدة وأسعار الصرف وما يعكسه ذلك من تباين سريع في أسعار الأسهم والسندات وتبدلاتها وبالتالي الوقوع في مطب الخسارات أو الانسحاب من السوق أو إفلاس بعض المستثمرين؛ نظراً للحجم الكبير الذي تحتله الأموال المغسولة في الأسواق المالية الدولية, سيما وأن هناك عصابات وشبكات ومنظمات دولية ذات إمكانيات هائلة متخصصة في عمليات خلق الأموال القذرة, وتبييضها- غسلها- بفضل العولمة المالية عن طريق انتقال الأشخاص والتحويلات المصرفية وانتقال رؤوس الأموال... وتقدر منظمة الأمم المتحدة الأرباح المتولدة عن الجريمة المنظمة بحدود تريليون دولار أمريكي سنوياً, ويعاد غسل خمس هذا المبلغ الضخم في الاقتصاد العالمي أي حوالي (200) مليار دولار سنوياً. ومن أبرز عمليات التعامل هذه ما يحصل في مجال الأسواق المالية والمؤسسات المالية التي تمارس الحسابات السرية المالية والمصرفية حيث يتم غسل الأموال وتبييضها عبر وسائل الدخول في عمليات شراء الأسهم والسندات (سلسلة من عمليات البيع والشراء) وما تعكسه مثل هذه العمليات من آثار سلبية على عمليات التداول والتعامل في تلك الأسواق. ويزداد الأمر خطورة إذا ما علمنا بأن شبكات غسيل الأموال القذرة توظف عدداً كبيراً من المستشارين القانونيين الاقتصاديين والماليين والسماسرة لإدارة ومتابعة عمليات التعامل وخاصة من خلال المؤسسات المالية والبنوك  (Off sure) التي تقوم بإصدار فواتير وشهادات استخدام نهائي مزورة لإخفاء مصدر هذه الأموال, وما يتبعه من إرباك للأسواق المالية الدولية نتيجة لحصول التغيرات المفاجئة والسريعة في أسعار الأسهم والسندات وأقيام المبادلات بشكل عام. تلك هي حال أسواق المال الدولية وما تعانيه عمليات الاستثمار فيها من حالات المنافسة غير المتكافئة والمضاربات والتلاعب مما يجعلها تحت وطأة تحركات الكتل المالية المفزعة وتدفقات رؤوس الأموال وتنامي قدرة الفاعلين الأقوى على صعيد رأس المال العالمي, لتشكل إمبراطورية الرأسمال النقدي المستقل عن الرأسمال الصناعي والبضاعي (5) وهكذا يتم الاستئثار بموارد الأسواق المالية الدولية ومردوداتها من خلال عمليات الاستثمار والمضاربة في تلك الأسواق.


المصادر:
1. جريدة فرنسية  -Claude Pottie: Lemond Nov. 1997
2. د. حسن حنفي، د. صادق جلال العظم: ما العولمة ص151.
3. د. سمير أمين: في مواجهة أزمة عصرنا، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، ص96، 1997.
4. Jan A.scholte ,, Global Capitalism and the state international affairs vol 73 No3 pp:432- 433 July 1997.
5. د. محمد عابد الجابري- العولمة والهوية الثقافية، صحيفة السفير اللبنانية 21/3/1997.

0 التعليقات :

إرسال تعليق