يقول اقتصاديو التنمية إن الدول النفطية تتركز في ثلاث مجموعات: دول متطورة اقتصاديا ودول أبوية اتكالية ودول بين بين.
النرويج مثال على الأولى والسعودية على الثانية.
والاتكالية تعني تفشي الشكوى من العمل والجد، وتفشي الكسل في المجتمع. وهناك مظاهر كثيرة على هذا التفشي. تناقل الناس تعليقات بما يشبه التعزية على انتهاء إجازة منتصف النصف الدراسي الثاني. مثال آخر، اعتمادنا المفرط على العمالة غير السعودية في شتى شؤون حياتنا، حتى في صالات القدوم في المطارات، وفي الأسواق وفي غيرهما. هل نرى هذا المنظر في الدول الأخرى؟ لا أقول الدول الأفقر، بل حتى الدول الغنية المتطورة اقتصاديا. الجواب بالتأكيد لا.
مثال آخر، إدمان القطاع الخاص والناس على الدعم الحكومي إلى حد الإفراط، فلا نرى حلا لمشكلاتنا من دون هذا الدعم. ويبدو أن كل الأطراف الحكومة والقطاع الخاص والناس مسرورون من هذا الإدمان. ونتيجة لهذا الارتهان نرى في كل طرف رغبة في جمع ما لا يمكن جمعه، وكل ينظر من زاويته: تطوير وتوسع دون مساس بالأرباح أو الأسعار. هذا غير ممكن.
لنأخذ تسعير الأسمنت مثالا. كثرة منا تود إبقاء سياسة تسعير الأسمنت بغض النظر عن الظروف. لكنه يبدو أن هذه الكثرة لا تفكر بعمق في آثار هذه السياسة على المدى البعيد. هذه السياسة تؤدي غالبا إلى جعل السعر المفروض من السلطة دون السعر التوازني للعرض والطلب للأسمنت، ما يصنع عجزا في السوق. والعجز يوجد السوق السوداء. قال ملتون فريدمان أحد أشهر علماء الاقتصاد في هذا العصر: ''نحن الاقتصاديين لا نعرف كثيرا، لكننا نعرف كيف نصنع عجزا. إذا رغبت في صناعة عجز في الطماطم، على سبيل المثال، فقط افرض قانونا يجبر باعة التجزئة على ألا يبيعوا كيلو الطماطم بأكثر من عشرة سنتات. بهذا الشكل، ستصنع عجزا في الطماطم''.
كما تتطلب سياسة التسعير (في مثل حالتنا الأسمنت) وجود دعم كبير لصناعته، وهذا بدوره يتسبب في احتياج إلى رعاية وحضانة مستمرة، أي صناعة طفيلية، ليست على أساس، بل على شفا جرف هار. ويتسبب أيضا في صعوبة تلبية طلب المنتجين لتوسيع الإنتاج نظرا لأن الطلب على احتياجات توسيع الإنتاج (من وقود وخلافه) ستتجاوز العرض في العادة. وهذه طبيعة الدعم في العالم كله: تحفيز الطلب على السلع المدعومة بشراهة. وهذا كله يحفز السلطات على منع التصدير (كحالة الأسمنت). وإلا فإن تصدير المدعوم يعني عمليا دعم المستهلكين من الدول الأخرى. والدعم يعني التشديد في منح تراخيص مصانع جديدة. وهكذا ندور في حلقة سياسة غير رشيدة.
ما النتيجة؟ هدر موارد هائلة، وسوق مشوهة بدرجة كبيرة. والمشكلات التي ظهرت في الأشهر الأخيرة انعكاس لهذا التشوه.
مثل هذه السياسات سمات للدول الاتكالية، اتكالية صنعتها أو رسختها ثروة النفط.
والاتكالية مظهر لمرض أعمق يسمى في أدبيات الاقتصاد ''المرض الهولندي''، الذي يعني ضمن ما يعني قوة اعتماد الناس على الدخل والدعم المتحقق من تصدير الثروات الطبيعية، وضعف تنافسية الاقتصاد وتدني الأداء وانخفاض نصيب الدخل من العمل والجهد.
اتكالية ثروة النفط أنبتت في المجتمع عدة أوهام عن أوضاعنا المالية، حيث ساد عند كثيرين وهم أن المال وفير جدا متاح لتحقيق كل ما تتمناه النفوس، وحل كل المشكلات التي تواجه المجتمع. وكانت النظرة عند كثرة من أفراد المجتمع أن أسعار وإيرادات النفط ستبقى مرتفعة ومجزية لتأمين مستوى معيشي مرتفع لعامة الشعب، ونظر إلى النفط كما لو أنه مورد غير ناضب.
إننا أمام قضية مصيرية، تعني صناعة يد عاملة منافسة، واقتصاد منافس يحقق العدالة الاقتصادية، ويقلل من تطفله على الدعم، الذي مصدره النفط. إنها تعني صناعة اقتصاد ينظر للمتغيرات بعقلانية أشد. وطبعا لا نكران أن الصناعات وقطاعات الاقتصاد ليست سواء في ظروفها.
الكاتب :-د. صالح السلطان
0 التعليقات :
إرسال تعليق