تابع جديد المدونة عبر:

التخلف الاقتصادي

يعود تاريخ استخدام مفهومي التخلف والتنمية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كانا يعبران، في البدء، عن لحظتين تاريخيتين في سيرورة تطور كل تشكيلة اقتصادية اجتماعية، ثم صارا يعبران، من بداية الستينات، وتحت تأثير التيار الإنتقادي الصاعد، عن تأثيرين متناقضين للرأسمالية، بوصفها نظاماً عالمياً، يتسبب تطور «مركزها» في تخلف «محيطها». ويعود لهذا التيار الانتقادي الذي برز تعبيراً عن النزعة «العالمثالثية» التي غلبت بعد انتصار الثورة الكوبية، الفضل في إدخال التناقض إلى مفهوم التخلف، إذ تعامل منظرو هذا التيار مع ظاهرة التخلف، ليس بوصفها إمكانية فحسب، وإنما بوصفها، في الأساس، واقعاً معاشاً، وسيرورة تنجم عن الروابط القائمة بين البلدان المتطورة والبلدان المتخلفة، إذ أن تطوّر بعضها لا يمكن أن يتم من دون تخلف الآخرين.
وكانت المقاربة الأكثر شيوعاً للتخلف تقوم، في الماضي، على أساس تمثيل «التخلف» بـ «الفقر» بوجه عام، وذلك اعتماداً على مؤشرات جزئية كالتغذية والصحة والأمية وعدد الوفيات، أو على مؤشر تأليفي، هو متوسط دخل الفرد.
ومع أن طريقة تحديد ظاهرة اقتصادية اجتماعية معقدة، مثل ظاهرة التخلف، بوساطة المؤشرات الإحصائية يقود غالباً إلى نتائج سطحية،تعني قياس التخلف على أساس المؤشرات الإحصائية متبعاً لدى بعض الاقتصاديين.
وفي أواخر الأربعينات، وعلى أساس تحديد التخلف بأرقام المؤشرات الإحصائية، قامت المقاربة المعتمدة على فكرة «الحلقة المفرغة» التي فسّرت التخلف بالتخلف، بإرجاع الظاهرة إلى عوامل مترابطة ينجم أحدها عن الآخر، إذ ينجم التخلف عن نقص في الادخار الذي ينجم عن مستوى الدخل المنخفض، المشروط بإنتاجية عمل غير كافية، وهكذا دواليك.
وقامت مقاربات للتخلف على أساس التفسير الاجتماعي للظاهرة، إذ رأى أنصار هذا التفسير أن كوابح التنمية في مجتمعات «العالم الثالث» تكمن، أساساً، في المؤسسات الاجتماعية وفي طرق التفكير والعادات الغالبة في المجتمع، أي في البنية الاجتماعية والعقلية للسكان.
كما قامت مقاربات للتخلف على أساس التفسير التاريخي، من أبرزها مقاربة و.و.روستو، الذي أشار إلى وجود خمس مراحل، يمر بها كل مجتمع من المجتمعات، في إطار عملية تطوّرية واحدة و متسقة، والتخلف يمثل المرحلة الأولى وهي مرحلة المجتمع التقليدي.
ويمكن تلمس ثلاثة اتجاهات في تفسير السمات البنيوية الشاذة للتخلف وهي:     
1ـ الاتجاه الماركسي الذي ينسب، على أساس النظر إلى الامبريالية بصفتها مرحلة تاريخية في تطور الرأسمالية، إلى العوامل الخارجية العالمية، دوراً حاسماً في تكوين البنية الحالية للبلدان المتخلفة.
2ـ الاتجاه الذي يؤكد دور العوامل الخارجية، ولكن من دون أن يحلل منبعها التاريخي والاجتماعي، ومن دون انتقاد الأثر الاستعماري والتقسيم الرأسمالي العالمي للعمل، بنقد منبعهما أي النظام الرأسمالي العالمي.
3ـ الاتجاه الذي ينظر إلى بعض العوامل الخارجية بوصفها من عوامل التخلف، ولكن من دون أن يعطي هذه العوامل الأهمية الحاسمة، بل يُرجع دور العوامل الخارجية وتأثيرها السلبيين إلى عوامل داخلية صرفة.
 وفي الواقع كان التخلف مرتبطاً أصلاً بظهور النظام الرأسمالي ومعه الاستعمار. فقد أدى ذلك إلى تقسيم دولي للعمل تخصصت بموجبه المستعمرات بإنتاج المواد الأولية ذات القيمة المضافة المتدنية، وتخصصت الدول الرأسمالية الاستعمارية بإنتاج المواد الصناعية ذات القيمة المضافة المرتفعة، فتراكمت الثروة في الدول الصناعية المتقدمة، وتجمع الفقر في المستعمرات المتخلفة. وتوضعت بذلك أسس التبعية الاقتصادية للبلدان المتخلفة حيال الدول المتقدمة.
 وعلى الرغم من انحسار ظاهرة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، فقد ظلت البلدان المستقلة حديثاً (المتخلفة) تعاني أنواعاً من التبعية التجارية والمالية والتقنية.
تتسم البلدان المتخلفة بعدد من السمات أبرزها:
ـ على الصعيد الاقتصادي، تدني دخل الفرد، واشتغال نسبة كبيرة من السكان في الزراعة،ضغف الادخار ونقص رأس المال.
ـ على الصعيد السكاني: ارتفاع معدل المواليد، وارتفاع معدل الوفيات، وتدني معدل الأعمار، وسوء التغذية، وتدني المستوى الصحي، وتضخم سكاني في الريف.
ـ وعلى الصعيد الاجتماعي والثقافي: تعليم بدائي وارتفاع نسبة الأمية، وخضوع سلوك جمهرة السكان للتقاليد، وتدني وضع المرأة، والضعف العام للفئات الوسطى.
ـ وعلى الصعيد التقني: تقنية متأخرة، وهبوط مستوى التقنية الزراعية.
ويُعرّف التخلف، بوجه عام، بثلاث خصائص بنيوية هي: التفاوت الكبير في التوزيع القطاعي للإنتاجية، وتفكك النظام الاقتصادي، والتبعية للخارج.
إن عدم تجانس البنى التي تنتمي إلى حقبات اقتصادية مختلفة يتجلى، في أحد مظاهره، في توزيع قطاعي شديد التفاوت للإنتاجية،ففي البلدان المتخلفة وفي غياب قوة  اقتصادية ديناميكية فعالة، فإن التوزيع القطاعي للسكان النشيطين والتوزيع القطاعي للناتج يبقيان متباعدين للغاية، إذ يؤلف، سكان الريف نسبة عالية من عدد السكان تراوح بين الثلثين وأربعة الأخماس، بحسب البلدان والمناطق، في حين لا يتجاوز ناتج الزراعة عموماً خمس الناتج المحلي الإجمالي. ولذلك ظهرت في العقدين الأخيرين موجات نزوح سكانية هائلة من الريف إلى المدن، وتحول الجزء الأكبر من النازحين الريفيين في إطارها إلى «هامشيين» أو إلى مستخدمين في قطاع الخدمات في المدن، وذلك بسبب انسداد إمكانيات التطور الصناعي في «العالم الثالث». وترتب على ذلك، تفكك الاقتصاد المتخلف. فالاقتصاد في البلدان المتطورة يؤلف كلاً متجانساً، يتكون من قطاعات مختلفة تقوم فيما بينها مبادلات «قطاعية» هامة، يكمل بعضها بعضاً ويرتبط به . أما اقتصاد البلدان المتخلفة فيتألف من قطاعات متراصفة، ولا تقيم فيما بينها سوى مبادلات هامشية، في حين يتم القسم الأساسي من مبادلاتها مع الخارج.
وينجم عن الطابع المشوَّه والمفكك للبنية الاقتصادية تشوُّه التركيب الطبقي وتفككه، إذ تعيش، إلى جانب عناصر المجتمع الرأسمالي، بقايا التشكيلات ما قبل الرأسمالية على نطاق واسع، وهو الأمر الذي يعيق تقدم الصيرورة الاجتماعية، ويبقي الحدود الفاصلة بين الطبقات والفئات الاجتماعية في البلدان المتخلفة أقل وضوحاً بكثير مما هي عليه في البلدان المتطورة.
بسبب تبعيته المتزايدة للخارج، يُعدّ الوطن العربي، على الرغم من ثرواته وإمكانياته الهائلة، من مناطق العالم المتخلفة، إذ لا يبلغ إجمالي الإنتاج الصناعي للدول العربية أكثر من 0.4 بالمئة من الإنتاج الصناعي العالمي، وما زالت الزراعة العربية أبعد ما تكون عن تلبية الاحتياجات الغذائية للمواطن العربي، وهو الأمر الذي يزيد من حدة مشكلة الأمن الغذائي، كما لا يزال الوطن العربي يعتمد اعتماداً كلياً تقريباً على الخبرة الفنية والتقنية ومعدات الإنتاج المستوردة من الدول المتطورة.
تفسير التخلف
كان التيّار الانتقادي في مقاربة التخلف، ومن أبرز ممثليه أندريه غوندر فرانك وتشيلسو فورتادو، قد انطلق من النقد الذي كان وجهه في خمسينات القرن العشرين «بول باران» للمناهج الكنزية والتقليدية الجديدة (النيوكلاسيكية) المعنية بمشكلات التنمية الاقتصادية في الدول المستقلة حديثاً، واستند إلى أفكار هذا الاقتصادي الأمريكي بخصوص توليد الفائض الاقتصادي وامتصاصه في إطار النظام الرأسمالي العالمي. وانطلاقاً من فكرة وجود نموذج للاقتصاد العالمي يقوم على اقتصادين، أحدهما «المركز»، والآخر «المحيط»، رأى التيّار الانتقادي أن المراكز الصناعية تسيطر على الأطراف المتخلفة بمصادرة فوائضها، الناتجة من فرض التنمية الرأسمالية الموجهة للتصدير، وأن التخلف هو دوماً النتيجة الأساسية للتغلغل الرأسمالي. وبحسب آ.غ. فرانك، فإن المركز ينتزع الفائض الاقتصادي من محيطه ويستحوذ عليه لأغراض تطوره الاقتصادي الخاص، في حين يبقى «المحيط» متخلفاً بسبب عدم قدرته على النفاذ إلى فائضه الخاص. وعليه، فإن التطور الاقتصادي (التنمية) والتخلف هما وجهان متعاكسان للعملة نفسها، وإن كلاً منهما هو التجلي المعاصر للتناقضات الداخلية في النظام الرأسمالي  العالمي.
ومنذ السبعينات بدأت تظهر انتقادات كثيرة «لنظرية التخلف»، التي وضعها التيّار الانتقادي، وتتزايد القناعة في أوساط الاقتصاديين، المعنيين بدراسة مشكلات التنمية في البلدان المستقلة، بأن عملية نقل الفائض من المحيط إلى المركز لا يمكن أن تفسر غياب التنمية في البلدان التابعة، وأن التنمية ليست بالضرورة الوجه الآخر للتخلف، وأنه ما أن تعد زيادة الإنتاجية جوهر التطور الرأسمالي حتى يصبح ازدهار المركز بعيداً عن أن يكون على حساب أي طرف آخر. وقد ساعدت هذه الانتقادات على ظهور إسهامات نظرية جديدة كان من بينها إسهام الاقتصادي المصري «سمير أمين»، التي استندت إلى فكرة «التخصص غير المتكافئ»، وتتلخص في أن عملية التراكم عملية التطور يجب تحليلها بوصفها عملية واحدة على المستوى العالمي، لأن التراكم في المركز عملية «متمحورة على الذات» ومحكومة بآليتها الداخلية الخاصة، في حين يكون التراكم في الأطراف «تابعاً» أو«خارجياً»، مقيداً بالعلاقة بين المركز والأطراف. يرى «أمين» أن الرأسمالية التي تطورت في المركز في وقت مبكر حققت سبقاً هائلاً في الإنتاجية مدة ظلت فيها الأجور متدنية، وعندما بدأت الأجور ترتفع، كان المركز قد حقق سبقاً في مجال الإنتاجية ظل كافياً لتحقيق تكاليف أقل في معظم القطاعات الصناعية، وأن الأجور، التي صارت تزيد بالتوازي مع الإنتاجية، ولدت انحداراً في معدل الربح لم يكن من الممكن التعويض عنه إلا عن طريق زيادة الاستغلال في الأطراف.
وفي الثمانينات، برزت اتجاهات جديدة كلياً في دراسة التخلف انطلقت من أن المحاولات النظرية التي ركزت على البعد الخارجي في فهم تخلف بلدان «العالم الثالث» لم تقدم إجابة واضحة عن سؤال هام هو: ما هو دور القوى المحلية في إنتاج التخلف؟. ومع أن هذه الاتجاهات الجديدة لم تتجاهل دور العوامل الخارجية، العالمية، إلا أنها رأت أن بنى المجتمع المعني وطابع علاقاته الاجتماعية هي التي تحدد، في التحليل الأخير، شكل التأثير الخارجي ومداه، وعليه، فقد انكبّت هذه الاتجاهات على تشخيص الآليات الداخلية للتخلف والتبعية، من خلال تحليل البناء الاجتماعي للبلدان المتخلفة تحليلاً يكشف ما فيه من أشكال الاستغلال والسيطرة، وفهم طبيعة أنظمتها الاجتماعية الاقتصادية ودور الطبقات الاجتماعية المهيمنة فيها، ودراسة العلاقات الجدلية بين مختلف عناصر الكل الاجتماعي وبين أنماط الإنتاج المختلفة المتعايشة في داخله. وفي السنوات الأخيرة، أظهرت تجربة بعض البلدان الآسيوية، مثل كورية الجنوبية وتايوان، أنه من الممكن تحقيق شكل من أشكال فك الارتباط مع «المركز» من دون أن ينتج عن ذلك نظام غير رأسمالي ولا انفكاك عن النظام الرأسمالي العالمي، وذلك على عكس ما كان يعتقد أنصار مدرسة التبعية، القدامى والمحدثون، الذين رهنوا إمكانية حدوث تنمية في بلدان «المحيط» بالدخول في قطيعة مع «المركز» والانفكاك عن النظام الرأسمالي العالمي.


الكاتب:- ماهر الشريف

0 التعليقات :

إرسال تعليق