تابع جديد المدونة عبر:

جواسيس الأقتصاد وعصر الحروب الأقتصادية



بعد انتهاء الحرب الباردة بين القوى العظمى، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم، أصبحت السيطرة على المعلومة تلعب دوراً هاماً وحاسماً في اتخاذ القرارات الهادفة لكسب أسواق جديدة، وأصبح كل شيء مباح في الحرب التي تتصارع فيها الدول والشركات على المعلومات الحيوية حول المنافسين، مما جعل الحرب تأخذ شكلاً آخر، ألا وهو الحرب الاقتصادية في الأسواق العالمية، وحتى تحافظ القوى الاقتصادية العظمى على حصتها من الأسواق الدولية فقد بدأت في شن حرب من نوع جديد واستخدام أسلحة بعيدة عن المدافع والقنابل، أما الجيوش المنوط بها شن هذه الحرب فهي أجهزة المخابرات المختلفة في كل هذه الدول والتي ركزت جميع جهودها في سبيل سرقة الأسرار الصناعية والتجارية للدول الأخرى والحصول على المعلومات الاقتصادية المهمة وتقديمها إلى رؤساء مجالس الإدارة وكبار الصناعيين في الشركات التجارية المختلفة بهدف مساعدتهم في اتخاذ القرارات الحيوية والمهمة خلال المفاوضات التجارية أو عند صراع هذه الشركات الكبرى للفوز بتنفيذ عقود دولية في أي جزء من العالم.

الصراع على المعلومة‏

ومما يشهد على نشاط وكالات المخابرات المختلفة في مجال التجسس الاقتصادي ما أشار إليه تقرير وكالة المخابرات الألمانية والذي يتهم جميع الدول بالتكالب والصراع على جمع المعلومات العلمية والتكنولوجية؛ إذ أشار التقرير إلى وجود مئات العملاء الروس والتشيك والسلوفاك والصينيين والإسرائيليين والأمريكيين، بالإضافة إلى عملاء وكالات مخابرات الدول الغربية الأخرى منتشرين في كل مكان سواء كان ذلك في الدول المتقدمة أو في أروقة الدول النامية.. وخلص التقرير إلى أن الجميع يتجسس على الجميع في جميع المجالات الاقتصادية الهامة، سواء أكان ذلك في مجال التجارة أو الزراعة أو المحافظة على الأسواق القديمة أو فتح أسواق جديدة، ناهيك عن العمل على تحويل اهتمامات الآخرين من المجالات التي يتمتعون فيها بمزايا نسبية إلى مجالات أبعد ما تكون عن ملاءمتها لهم، وذلك عن طريق تقديم المشورة الملغمة أو الضغط، وذلك في سبيل استنزاف قواهم وضمان استمرار الضحية بالاعتماد على مساعداتهم ودعمهم المقرون بشروط وضوابط تخدم أجندتهم ومصالحهم على المدى الطويل. 
ومن ناحية أخرى أشار التقرير السنوي للأمن القومي الكندي لعام 1993م أن الأسرار العلمية والأبحاث التكنولوجية الكندية التي استغرق إعدادها سنوات طويلة وكلفت ملايين الدولارات قد سُرقت ونُقلت إلى مصانع وشركات خارج كندا. 


وأشار التقرير إلى أن هناك حرباً خفية يقودها جواسيس الاقتصاد في أكثر من (25) دولة.. وهذا يهدد الإنجازات التي حققتها الشركات الكندية بجهد وأموال شركاتها وعلمائها.. وفي هذا الصدد أشارت تقارير إدارة مكافحة التجسس الفرنسية إلى أن الأمريكيين جعلوا من التجسس الاقتصادي هدفهم الأول، ولذلك فإن عدد الجواسيس الذين يعملون لمصلحة أمريكا في فرنسا يتجاوز الثمانين عميلاً.. وهذا ما شكل قلقاً في الأوساط الرسمية الفرنسية، مما اضطرهم إلى طرد خمسة من موظفي السفارة الأمريكية هناك.. وفي هذا الصدد أيضاً يمكن الإشارة إلى أن اليابان في بداية نهضتها وما زالت تولي التجسس الصناعي والتقني والاقتصادي أهمية كبيرة، كما أن الصين أغرقت أوروبا وأمريكا بجواسيسها التقنيين والاقتصاديين.

خسائر الدول من التجسس

وعلى الرغم من الفوائد العديدة التي تعود على الشركات العالمية جراء التجسس الاقتصادي، إلاّ أن خسائره طالت العديد من الشركات الأخرى، وأصبحت عاملاً سلبياً في النمو الاقتصادي؛ إذ أكدت مجموعة من الخبراء فى ألمانيا أن عمليات التجسس الاقتصادي والصناعي ضد الشركات الألمانية تهدر نحو (50) ألف فرصة عمل سنوياً 
ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن (أودو أولفكوته) أحد الخبراء الأمنيين من عجز كثير من شركات البلاد عن مواجهة عمليات التجسس على مشاريعها وتصميماتها من قبل الشركات الأجنبية، بالإضافة إلى ضعفها فى مواجهة قراصنة الكمبيوتر. 


وأضاف الخبير أن خسارة الشركات الألمانية للمعرفة والخبرة الفنية بسبب عمليات التجسس يعنى فقدان القدرة على المنافسة، ويهدر فرص العمل داخل البلاد، كما أن 
حجم الخسارة التى يتعرض لها الاقتصاد الألماني سنوياً من عمليات التجسس تتراوح بين 10 - 50) مليار يورو.) 

وفي الولايات المتحدة الأمريكية قُدّرت الخسائر الناتجة عن التجسس المحلي والأجنبي على الشركات الأمريكية فيما يتعلق بخسائر حقوق الملكية الفكرية بحوالي (300) بليون دولار أمريكي في العام 1997. ‏ 


وعلى الرغم من وجود قانون التجسس الاقتصادي في الولايات المتحدة والذي اعتمد سنة 1996، إلاّ أن العديد من الدول الأجنبية قد استهدفت الشركات الأمريكية بشكل خاص بعمليات تجسس منظمة في سبيل اختراقها والحصول على معلوماتها وآخر ما أنتجته التكنولوجيا الأمريكية، ولا يبدو ذلك غريباً؛ إذ تنفق الولايات المتحدة أكثر من (108) بلايين دولار على الأبحاث والتطوير أو ما يعادل ربع الإنفاق العالمي كله، ‏وللدلالة على حجم المشكلة وتعقيدها فلقد تم توثيق أكثر من (1100) حادثة تجسس إقتصادي إضافة إلى 550 حادثة غير موثقة في الولايات المتحدة، وذلك في أكبر الشركات الأمريكية، بالإضافة إلى (700) قضية تجسس اقتصادية بواسطة حكومات أجنبية مازالت تحت التحقيق أمام مكتب التحقيقات الفيدرالي. ‏ 


‏أما أكثر الدول التي تستهدف الأسرار الاقتصادية الأمريكية فهي: فرنسا، ألمانيا، إسرائيل، الصين، اليابان، روسيا وكوريا الجنوبية، وإن كان مجموع هذه الدول جميعاً يصل إلى 23 دولة أجنبية. ‏ 

وعلى الرغم من العقوبات الشديدة التي فرضها قانون التجسس الاقتصادي والمتضمنة غرامات تصل إلى عشرة ملايين دولار والسجن لمدة (15) سنة إلاّ أن قضايا التجسس في تزايد مستمر. ‏

شركات متخصصة

والأمر الذي أثار دهشة واستغراب جميع المراقبين هو أن عمليات التجسس التي تم 
اكتشافها، قد كشفت النقاب عن وجود شركات متخصصة في هذا المجال، تركز نشاطها في تقديم هذه الخدمة إلى الشركات الصناعية والخدمية والحكومة مقابل أجر، وأن هذه الشركات لديها العديد من العملاء الذين يطلبون هذه الخدمة، كما أنها توظف لديها العديد من الكوادر المدربة من المحاسبين والمراجعين والمحللين الاقتصاديين. 


والغريب في الأمر أن هذه الشركات والعاملين بها لا يعتبرون نشاطهم نشاطاً غير مشروع أو يدعو إلى الخجل، ولكنهم يرون أن قيامهم بهذا العمل هو واجب وطني وخدمة عامة بحجة الدفاع عن المصالح القومية الاقتصادية في حالة التجسس على دولة أخرى أو في حالة التجسس على إحدى الشركات التي تنتمي إلى دول أخرى، وكذلك بحجة تقديم البيانات والمعلومات إلى العدالة في حالة التجسس على شركة وطنية لصالح شركة أخرى وطنية بينهما قضايا تتعلق بالمنافسة أو الاحتكار في السوق المحلية، وهذا تماماً ما عبر عنه أحد الذين قاموا بالتجسس على شركة (مايكروسوفت) لصالح (أوراكل) المتنافستين في مجال البرمجيات في السوق الأمريكية في أثناء نظر قضية الاحتكار ضد الشركة الأولى؛إذ قال: "كل ما فعلناه كان محاولة للحصول على معلومات سرية وتسليط الأضواء عليها لخدمة العدالة وأعتقد أن ذلك خدمة عامة". 


ومن أشهر الجهات التي يرى البعض أنها تتخصص في مجال التجسس الاقتصادي جمعية محترفي التنافس المخابراتي، وهي جمعية تم تأسيسها عام 1982 في الولايات المتحدة الأمريكية على يد بعض العاملين في مجال المكتبات، وبعد حوالي (20) عاماً من تأسيس هذه الجمعية أصبح معظم أعضائها من المحاسبين والمتخصصين في أبحاث السوق والأعمال البحثية والمعلوماتية الميدانية، وبعد الكشف عن واقعة تجسس شركة أوراكل على شركة مايكروسوفت تم إحراج هذه الجمعية وغيرها من الشركات والمؤسسات المثيلة؛ إذ بدأ الناس والحكومات ينظرون إليهم على أنهم جواسيس، وهو ما أجبر بعض هذه الشركات ومنهم هذه الجمعية على إصدار بيانات تنفي عن نفسها تهمة القيام بنشاط التجسس، بل إن هذه الجمعية قامت بوضع ميثاق شرف لطمأنة عملائها الذين وصل عددهم إلى حوالي (7) آلاف عميل، وفي هذا الميثاق تم وضع أخلاقيات للعمل في هذا المجال يلزم العاملين فيها بالارتقاء بالمهنة والالتزام بالقوانين واحترام المعلومات التي توصف بأنها سرية، ولكن البعض يعتقد أن مثل هذه البيانات ومواثيق الشرف لا تنفي الشبهة عن هذه الجمعيات أو الشركات.

أساليب التجسس

وبالنسبة لأساليب التجسس الاقتصادي، فهناك نوعان رئيسيان هما أساليب مباشرة وأخرى غير مباشرة: 


- أساليب التجسس المباشرة: وهذه ما تلجأ إليها الشركات الكبرى والحكومات، فالحكومات في الدول المتقدمة تسعى من خلال التجسس للمحافظة على تقدمها والفوز بالسباق على منافسيها، أما حكومات الدول التي تسعى لتحقيق مزيد من التقدم فإنها تلجأ للتجسس من أجل اللحاق بركب الدول المتقدمة ودخول نادي الكبار، وفي كلتا الحالتين يتم زرع الجواسيس وتجنيد العملاء عن طريق الإغراء المادي والمعنوي أو إفساد الذمم، والعامل الأخير يعتبر من أشد الأساليب تدميراً واضعافاً للجانب الآخر من المعادلة، وذلك لأنه يساهم في نشر الفساد الاقتصادي في أوساط أصحاب القرار، كما أنه يؤدي إلى الفساد الاجتماعي، وهذا بدوره يساهم في تقويض فرص التقدم عن طريق تفشي الأنانية، والانتهازية، والرغبة في تحقيق المكاسب الشخصية بأي ثمن، وبأية وسيلة، وهذا بالتالي ينعكس على الاقتصاد والمجتمع وعلى الكفاءات والخبرات الخلاقة ويدفعها إلى الانزواء أو الهجرة أو الاحباط.

 
- أما الأساليب غير المباشرة لعملية التجسس الاقتصادي: فإنها أكثر خطورة وهذه تظهر من خلال الأنشطة العلنية، والمشروعات المشتركة التي تقوم بها الشركات أو الحكومات أو المؤسسات المدنية أو العسكرية، ويدخل في ذلك عقد الندوات، وإقامة المؤتمرات، والمعارض، وتقديم المنح الدراسية، وتبادل الدارسين وتجنيد بعض المندوبين والمبتعثين وغير ذلك من الأساليب التي يصعب حصرها، لذلك فإن الجواسيس الاقتصاديين يتواجدون في كل مكان ويشمل ذلك المعارض .

والأسواق، وغرف التجارة والصناعة، ووزارات الصناعة والاقتصاد، ومراكز الأبحاث، وفي الجامعات والمؤسسات العسكرية، والأمنية وحتى في القرى والحقول ذلك أنهم يهتمون بكل صناعة وبكل منتج وبالعقول البشرية التي تديره.

وسائل التجسس

ولقد تعددت وسائل التجسس الصناعي والتجاري وتنوعت وإن كانت تشبه تلك المستخدمة في أجهزة المخابرات الأمنية ومنها: ‏ 


- زرع أجهزة التنصت في مكاتب الشركات، والتنصت على المكالمات الهاتفية، واعتراض مكالمات الهواتف الخلوية وتسجيل رسائل الفاكس. ‏ 


- اختراق شبكات الكمبيوتر. ‏ 


- سرقة المعلومات والرسوم والوثائق سواء بشكلها العادي أو باستخدام أقراص الكمبيوتر. 


- استخدام بائعات الهوى في سبيل ابتزاز رؤساء ومدراء الشركات. ‏ 


- استخدام (الطعم) سواء كان رجلاً أو امرأة جذابة في سبيل الإيقاع واصطياد بعض الموظفين الذين يملكون أسرار التجارة. ‏ 


- توظيف بعض العاملين السابقين في الشركات المنافسة والذين يملكون معلومات قيمة. ‏ 


- استخدام الرشوة لأحد الموظفين أو موردي الخدمات. ‏ 


- زرع عميل في إحدى الشركات بهدف اختراق أنظمة المعلومات أو شراء ذمم بعض الموظفين أو مسؤولي الشركة، واعتراض المكالمات بهدف التعرف على الأبحاث السرية والمعلومات المحظور تداولها. ‏ 


- التنصت على المكالمات الهاتفية لرجال الأعمال خلال طيرانهم على متن طائرات تابعة لخطوط وطنية لإحدى الدول وتفتيش حقائبهم وأجهزة الكمبيوتر المحمولة خلال إقامتهم في الفندق. ‏ 


- إرسال رسائل بريدية عادية أو بواسطة البريد الالكتروني أو إجراء مكالمات هاتفية عادية تحت أسماء مستعارة وذلك للشركة المستهدفة. ‏ 

- زيارة مواقع الشركات على شبكة الانترنت وتحليل المعلومات المدرجة فيها. ‏ 


- الحصول على النشرات الدورية الخاصة بالشركة المستهدفة وتحليل المعلومات الخاصة بالإنتاج والتسويق الواردة فيها. ‏ 


- البحث في سلال المهملات والقمامة بحثاً عن أي معلومات مثل مسودات العقود أو معادلات الإنتاج أو أي معلومات أخرى قد تبدو غير مهمة، ولكن عند تحليلها وربطها مع غيرها من المعلومات فإنها تنتج كماً هائلاً من المعلومات السرية. ‏ 

وبعد فلابد من التأكيد على أن التجسس الاقتصادي لا يفرق في أعماله بين دولة صديقة أو حليفة أو معادية، متقدمة، أو متخلفة، بل إنه توسع ولم يعد من اختصاص أجهزة المخابرات فقط.

 إذ إن الشركات الكبرى ومراكز الأبحاث ومراكز الدراسات الإستراتيجية ووسائل الإعلام صارت تعتمد على مصادرها الخاصة وعلى فنيين واقتصاديين وحتى على العمال العاديين للحصول على معلومات عن الشركات والمؤسسات والمراكز المنافسة سواء كان ذلك داخل البلد الواحد أو بين الدول المختلفة. وهذا العمل التجسسي وجمع المعلومات يشمل جميع الفعاليات الحياتية من اقتصادية أو خدمية وغذائية وزراعية، وعلمية واجتماعية بالإضافة إلى الطاقة والبيئة والاتصالات والبنوك وغيرها من الفعاليات التي تتأثر بالاقتصاد وتؤثر فيه.


الكاتب :- صلاح الصيفي / برلين

1 التعليقات :

Entrümpelung يقول...

موضوع ممتاز جدا شكرا لكم

إرسال تعليق