تابع جديد المدونة عبر:

التطور الاقتصادي/ المتسببون/ ابتداء الأزمة السياسي/ والقائد علم الكآبة


 
هي مقالة بالاقتصاد السياسي. تستمد كثيرا من ملاحظاتها من الاقتصادات المتقدمة وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. تلك الاقتصادات التي أدعى القائمون عليها أنها مستقرة لأنها قامت وما زالت معتمدة على مؤسسات قوية من جميع النواحي الاقتصادية والقانونية والرقابية وتتصف بالاستمرارية منذ قدم الزمن ...!!
يحاول المتسببون في الأزمة المالية العالمية، والتي تحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية مهما حاول المتسببون طمسها، إقناعنا بأن ما حدث كان مفاجأة.

وبكل صدق يحار المرء أن يفهم ذلك فالمفاجأة عادة تأتي بشيء لا يتوقعه الناس أبدا ولا يستطيع المرء أن يتنبأ به.
والمفاجأة عادة تحدث بسرعة فائقة. لكن كيف نفاجأ بهذه الأزمة والتي كانت وما زالت واضحة للعيان من أنها ستحدث إذ إن جذورها زرعت ونمت منذ أكثر من ربع قرن وكانت واضحة لكل عقل سليم بأن يوم الحساب سيأتي في يوم ما.

وكل هذا الوضوح تجاهله المتسببون فيها وبدأوا يصبون جام غضبهم بعد حدوثها على علم الاقتصاد الذي خذلهم بعدم قدرته على التنبؤ بحدوثها.

لا بل إن كثيرا من الصحف المختصة انساقت وراءهم وأعلنت وأد علم الاقتصاد. علم الاقتصاد هو علم منطقي وبكل بساطة وتبسيط ينبثق من قانون العرض والطلب، هذا القانون الذي منذ فجر التاريخ قائم وثبتت عمليته مع كل التغييرات التي حدثت في تاريخ البشرية.

يقول هذا القانون إن سلعة ما مهما كانت نقوداً أو بضاعة أو خدمات يحتاج إليها المجتمع تعرض وتطلب في مكان ما يسمى السوق وهذا الملعب (السوق) تتفاعل فيه رغبات وقدرات وأهواء الناس وفي يوم ما ولحظة ما يتعادل مجموع عرض الشيء مع مجموع طلبه ونصل إلى نقطة التوازن، وفيها يقرر سعر الشيء الذي يستمر بالارتفاع إن كان المعروض أقل من المطلوب وقد يهبط إلى مستوى يتوازن فيه الطلب مع العرض.

وإذا انخفض هذا السعر كثيرا فقد يؤدي إلى إفلاس كثير من المنتجين ولا يبقى في السوق إلا المنتج القوي ذو الكفاءة العالية.
وكلمة توازن هذه هي مجاز للتبسيط فقط إذ إنه منطقيا لا توجد نقطة واحدة تسمى بهذا الاسم نظرا لديناميكية العوامل المتفاعلة في الاقتصاد، فلا توقف عن الإنتاج والاستهلاك في أية لحظة.

لهذا يجب أن يفهم أن علم المنطق يستعمل هذه النقطة مجازاً ليوحي بتساوي عرض الشيء مع طلبه وأن السعر قد استقر إلى حد ما.
والبعض من المراقبين يخطئ في فهم هذا القانون وهم الذين يتهمون علم الاقتصاد بعدم كفاءته لعدم تفسير الأشياء الاقتصادية، فكثير من الناس يظنون أن أي اختلال في التوازن بين العرض والطلب سيؤدي فورا عن طريق آلية السوق إلى إعادة التوازن وينسون عامل الزمن في كثير من الأحيان مع أنه من أهم العوامل المؤثرة في إعادة التوازن.
ولهذا نقرأ في المدى القصير أو المتوسط أو الطويل والتي انبثقت أصلا من ما هي المدة الزمنية التي يحتاج إليها منتج ما لتغيير آلاته وأشياء أخرى من أجل زيادة إنتاجه أو خلق صناعة جديدة.

وفي هذا السياق فإنني أحاجج بكل إيمان بأن مدة المدى يجب تغييرها نظرا لكفاءة وسائل التصنيع وسرعة النقل في العالم. فالذي كان يحتاج تصنيعه أو بناؤه إلى ثلاث سنوات مثلا قد نستطيع عرضه لمن يحتاج إليه بمدى نصف تلك المدة تقريبا.
هذا العلم باقي ما بقيت البشرية منطقيا ولا جديد تحت الشمس. والمضحك أن كثيرا من الناس حين انتشر الإنترنت أشاروا بعبارة الاقتصاد الجديد وودعوا ما سموه بالاقتصاد القديم ونسوا أن الإنترنت ما هي إلا وسيلة من وسائل تحسين عرض شيء ما والطلب عليه وبقي قانون العرض والطلب قائما كما كان. وكل هذه الاختراعات الجديدة الخيرة أن شاء الله - ما هي إلا وسائل لتحسين الكفاءة لإنتاج واستهلاك شيء ما لنصل إلى ما يسمى بنقطة التوازن مجازا وهي أحد المؤشرات الاقتصادية إلى أن الاقتصاد ككل وصل إلى مرحلة التوازن العام General Equilibrium وأن موارده تتفاعل بكل كفاءة.

المتسببون

من المتسببون في هذه الأزمة؟

هم المسيطرون على قرارات الاقتصاد في بلادهم، هم السياسيون المنتخبون والذين كانوا يبيعون الحكي للناخبين لانتخابهم واتفقوا مع فرسان القطاع المالي صانعي ما يسمى بالهندسة المالية، ذلك الاتفاق الذي قادنا جميعا إلى هذه الأزمة.
والذي دفع ولا يزال يدفع ثمنها حامل الأسهم عامة والأسهم العادية خاصة وفي النهاية دفع وما زال يدفع الاقتصاد ككل من حالات الإفلاس وضياع مدخرات العمر والركود الاقتصادي وما يترتب عليه من زيادة في البطالة وغيرها من النتائج السلبية.
فالمتسببون في هذه الأزمة هم الساسة المنتخبون بالذات، المتحمسون دائما للوعد بتنفيذ ما يرغب الناخب سماعه، وإليكم هذه الحالة الفرضية:

لنفترض أن نسبة التضخم في بلد ما عالية جدا غير أن المجتمع لسبب ما مثل النشوة أو غيرها يعتبر أنه في وضع مريح لأن التضخم أحيانا يقود إلى الشعور بالغنى الزائف.

فأي عالم اقتصاد تطلب مشورته من المرشح للانتخابات سيرشد المرشح إلى أن هذا الوضع (التضخم) خطير جدا إذا ما استمر لأن زيادة الأسعار المستمرة ستتوطن في الاقتصاد وسيدفع المجتمع لعلاجها في المستقبل تكلفة باهظة، إذن ما هو الحل؟ يسأل المرشح ..... الجواب: الدعوة لرفع تكلفة الإقراض (الفائدة) وكذلك السيطرة على السياسة المالية التوسعية وكلا الدواءين هدفهما تقليل الطوفان النقدي في السوق لكبح جماح التضخم. حتما سيرشد العالم الاقتصادي بعلاجات أخرى مثل زيادة عرض السلع وغيرها.

والسؤال هو، هل المرشح يملك الجرأة الكافية والنزاهة الفكرية ليصدق الله وقومه بأن الوضع غير صحي ولا يستطيع البلد الاستمرار على ما هو عليه وأن الحلول كذا وكذا؟.

إنني على يقين بأن السياسي المرشح سيحاول جهده باللف والدوران وأنه إذا انتخب سيوفر لهم بسياسته الجبارة الزبدة والبندقية في الوقت نفسه، وهو يعلم في دخيلة نفسه أن ما يذكره (برنامجه الاقتصادي) ما هو إلا تضليل وأنه بمجرد انتخابه سيواجه الحقيقة المرة، إن كل ما وعد به أو أكثره لن يستطيع أن ينفذه إلا إذا سيطر على التضخم بالأدوية المذكورة وغيرها، أي إنهاء حفلة النشوة في المجتمع.

هذا يقودنا إلى أن السياسي المرشح لا يصارح قومه بشيء لا يحبون سماعه إلا ما ندر فهو أسير مسوحات آراء الناخبين الذين يجهلون العوامل الكثيرة والحقائق المرة التي تكمن خلف ضباب نشوة الغنى المزيف.

ابتداء الأزمة وحفلة الرقص

انتخب الرئيس ريغان في أوائل الثمانينيات الميلادية ووعد الشعب الأمريكي بالذات بأنه سيحرر الاقتصاد الأمريكي من ما شابه من أفكار دخيلة أثرت في كفاءة ميكانيكية السوق والتي هي عماد النظام الرأسمالي.

وأنه سيقلل من حجم الحكومة الفيدرالية وأنه سيوازن الميزانية والذي بدوره سيقود إلى خفض الدين العام.

فصفق له وانتخبه المحبطون من إدارة من سبقه (الرئيس كارتر) فماذا كانت النتيجة ؟ أقنع مستمعيه وشعبه بأن الحل يكمن في الإيمان بأن السوق ولا غيره هو الحكم فبدأ بتحطيم كل القوانين الرقابية كلما استطاع وخلق ما يسمى بحرية اقتصادية أشبه بشريعة الغاب. وانضم إليه كل سياسي يؤمن بأفكاره واتحد معهم أكثر ما سمي بعباقرة القطاع المالي من شارع «وول ستريت» (شارع المال) وغيره.

وخيم الجشع وفكرة اللهم نفسي على الفكر الاقتصادي في البلد وتبعها العالم وخاصة في بريطانيا وقيادة السيدة تاتشر (المرأة الحديدية) كما يقال والمؤمنة بأفكار ريغان.
واكتملت الصورة الجميلة ظاهريا والتي كانت، في الحقيقة، تزرع بذور دمار العالم المالي والتي انفجرت منذ عام 2007 م.
هؤلاء وأمثالهم من جورج بوش الابن وغيره المتسببون فيما يسمى بالأزمة المالية العالمية، فهي ليست مفاجأة إلا للذين آمنوا بنظرية عدم التدخل ودافعوا عن قدسية ميكانيكية السوق إذا تركت حرة، فالسوق حلال كل العقد مهما طال الزمن. ماذا كانت نتيجة وعود ريغان؟

لقد ترك حجم الحكومة الفيدرالية أكبر مما كانت وعجز الميزانية الأمريكية والدين العام كذلك، إذن كل وعوده الرئيسية لم تنفذ اللهم إلا تحطيمه كل قوانين الرقابة المالية بالذات والتي أدت إلى الإيمان المزيف بعدالة ميكانيكية السوق وأن الرأسمالية القائمة على تحرير السوق من الشوائب الدخيلة هي الطريق إلى الخلاص من كل منغصات الحياة. وحقا صدق من قال واستبدل العالم الفكر الشيوعي المستبد بالرأسمالية التي لا ترحم.

وحين حذر الاقتصاديون من خطورة الوضع أتى الجواب من أحد الخبراء الرئيس التنفيذي لأكبر بنك في الولايات الأمريكية آنذاك بقوله: لا نستطيع أن نقف متفرجين وحفلة الرقص التي بدأت قائمة ومستمرة فشارك وأمثاله فيما سماه حفلة الرقص التي أدت إلى هذه الأزمة. الحفلة التي كانت تتضمن تحويل ديون البنوك بالذات إلى وسائل مالية للاستثمار والادخار تباع في السوق الدولية. تلك الوسائل التي امتزج بها الدين السيئ (المعدوم أو الضعيف استرداده) مع الدين الجيد (ذو الاحتمال العالي بالاسترداد).
أي أن هذه البضاعة المسخ من البنوك والتي تفتق عنها ذهن أبطال ما سمي بالهندسة المالية أشبه بمن يشتري صندوق فواكه، ظاهره فواكه جيدة وباطنه الفواكه الرديئة.

واستمر الإقراض لمن هب ودب ونشرت البنوك موظفيها تجار شنطة يجوبون العالم ليبيعوا تلك المنتجات والتي سميت فيما بعد بالمسمومة بعد أن انفجرت الأزمة.

وفي هذه الأثناء كان القائمون على أكثر البنوك، حين وصفوا بالجشع وقلة الأخلاق، يرددون أن مؤسساتهم (البنوك) ليست جمعيات خيرية فهم في خدمة حاملي أسهم بنوك ولا أحد غيرهم.

وكم كنا نأمل لو أنهم صدقوا بذلك لأن انفجار الأزمة أدى إلى ضياع مدخرات واستثمارات حاملي الأسهم البسطاء بالذات، والراقصون أخذوا مكافآتهم وانسحبوا بأمان وتركوا البنوك ليفلس بعضها بالكامل ولينقذ بعضها من قبل الحكومات بالتدخل المباشر.
والذي كان يحتقره منظرو عدم التدخل من ساسة وبعض الاقتصاديين المؤمنين بعدالة ميكانيكية السوق ورجال سوق المال أعمدة نظام رونالد ريغان ومسز تاتشر وجورج بوش الابن وأمثالهم.
والمؤلم حقا أنه أثناء حفلة الرقص هذه، والتي أصبح العالم كله مكانا لها، نظرا لأهمية الولايات المتحدة بالاقتصاد العالمي، وصفها محافظ البنك المركزي الأمريكي بأنها دليل على عظمة النظام المالي الأمريكي بمرونته التي تستطيع أن تتكيف مع الظروف المتغيرة.

وهاهو الآن يبكي على الأطلال ويطلب الغفران بعد أن حل الدمار المالي والذي أدى إلى هذا الركود الاقتصادي.
وهكذا سمي الدجل مرونة والكذب والغش والسرقة صفات لديناميكية النظام المالي الأمريكي.

وعوضا عن أن يقود ذلك الاقتصاد العظيم العالم إلى الرخاء والرفاهية قاده إلى الدمار بسبب ما حدث في قطاعه المالي حين سيطرت أفكار سوق المال (وول ستريت) والساسة بائعي الوعود المزيفة الذين حطموا أنظمة الرقابة المالية بذريعة عدم التدخل في عملية السوق، لأن ذلك وذلك فقط هو الطريق السليم للابتعاد عن الفشل والوصول إلى الحرية الاقتصادية التي يجب أن تكون الدعامة القوية للنظام الرأسمالي حسب تفكيرهم المحدود.

وهكذا عمت الكآبة العالم وخاصة الولايات المتحدة من سوء أفعالهم وعوضا عن الاعتراف بخطئهم يتهمون علم الاقتصاد علم المنطق بأنه خذلهم (أظن لأنه نغص عليهم فرحتهم أثناء رقصهم وكشف زيفهم جميعا).

السياسي والقائد

ذكرت هنا وهناك السياسي المنتخب الذي يراقب ويسير حسب أهواء الناس بغض النظر عن الصواب والخطأ فلهذا فهو ليس قائدا، لأن كلمة القائد تعني ذلك الزعيم الذي يصارح قومه بالحقيقة مهما كانت مرة.

القائد هو من يصدق الله ونفسه ولا يهمه في النهاية إلا مصير أمته وإنقاذها من الضياع.

ولذا مع كل تحفظنا عليه، نحن العرب، أجد أن الرئيس ديغول كان قائدا بكل معنى الكلمة حين صارح الأمة الفرنسية بالحقيقة المرة الصادقة بأن لا مستقبل لفرنسا كدولة عظيمة إن استمرت في إصرارها على أن الجزائر جزء لا يتجزأ منها.

وصارحهم وحاول إقصاءه زملاؤه رفاق السلاح لكنه أبى أن يخضع وانتشل فرنسا من الضياع سياسيا وبالذات اقتصاديا لأن تكلفة حرب الجزائر كانت باهظة وبحكمته عرف أن ذلك العناد سيحطم فرنسا اقتصاديا لأنها لا تستطيع الاستمرار في تحمل تلك التكلفة الباهظة. وصدق علم الاقتصاد علم المنطق لا علم الكآبة كما يدعى المتسببون.

وكعادتهم تجار الكلام تجار الوعود الزائفة يحبون الكلمات والعبارات الرنانة ذات الصدى الراقص فورا ليصفق لهم الناخب مع أن هذه الكلمات أو العبارات سطحية لا بل كاذبة.

ينعتون علم الاقتصاد بأنه علم الكآبة ولو عرفوا معنى علم الاقتصاد لما نعتوه بذلك. إذ إنه علم يدعو إلى استغلال واستعمال وتوظيف كل الموارد المتاحة في الاقتصاد لرفع رفاهية المجتمع.

وهو العلم الذي يؤمن بالتنمية الحقيقية المؤدية إلى احترام كرامة الإنسان وصيانتها.
والاقتصادي الذي يتحلى بالنزاهة الفكرية والشجاعة الأدبية، المؤمن بفلسفة علم المنطق لا تهمه كثيرا أكثر الأرقام المالية التي يتغنى بها السياسيون المنتخبون ومن على شاكلتهم إن لم تقد هذه الأرقام مهما كبرت إلى التنمية الحقيقية، فالاقتصاد الذي كانت فيه الطبقة المتوسطة مسيطرة على نشاطاته لا يستطيع أن يدعي أنه نما تنمية حقيقية بنسبة عالية حين يسيطر 1 في المائة من السكان على نحو 22 في المائة من الدخل الوطني.

هو اقتصاد الولايات المتحدة والتي يقدر تعداد سكانها بـ 308 ملايين نسمة ودخلها نحو 14 تريليون دولار.
وللمقارنة فإن مجموع سكان الصين والهند وروسيا والبرازيل يعادل 2.8 مليار نسمة ودخلها مجتمعة يعادل نحو 60 في المائة من مجموع دخل الولايات المتحدة.

فهذا اقتصاد مريض وصدق التشخيص بمرضه حين قاد العالم إلى هذه المصيبة الكبيرة التي تسمى مجازا أزمة مالية.
وها نحن ننتظر مع الشعب الأمريكي ظهور القائد الأمريكي لا السياسي الذي ينتشله من مرضه لأن في انتشاله فائدة للعالم أجمع لأنه الاقتصاد الذي سمح لكل فرد أن يفجر طاقاته الاقتصادية بكل حرية وسمح له بالأمان في مأكله ومسكنه ومشربه.
إنه الاقتصاد الذي لم ير التاريخ البشري مثله عطاء. إنه لمن المؤسف أن يتحول دينمو الاقتصاد العالمي إلى هذه الهيكلية الاقتصادية المريضة والتي وصل إليها بعد أن سيطر عليه رجالات شارع المال ومعهم الساسة بائعو الوعود الكاذبة الذين يؤمنون بقدسية عدم التدخل. فالساسة لا القادة هم أكبر عقبة في تنمية البلد وعلم الاقتصاد بريء منهم ومن وعودهم.
فحذار أيها السياسي المفوه بنعت علم الاقتصاد بعلم الكآبة فإنه زيادة على ما ذكر أعلاه من نبل هدف الاقتصاد ينطبق على من يتقول ويتفكه بهذه الكلمة (الكآبة) القول الشهير وإذا أتتك مذمتي من ناقص ..... وإليكم قصة هذه الكلمة.

علم الكآبة

في نحو منتصف القرن التاسع عشر وفي فترة اتصفت بحراك كبير من قبل العمال الزنوج بالذات في جزر البحر الكاريبي للمطالبة بأجور عادلة خاصة وحركة تحرر العبيد في الولايات المتحدة عامة، ظهر توماس كارلايل وصب جام غضبه واحتقاره على أولئك الذين كانوا يدعون إلى أن أجر العامل، بغض النظر عن لونه، يجب أن يتقرر بواسطة العرض والطلب.

طبعا لم يعجب ذلك القول ذلك المسمى بالفيلسوف توماس كارلايل. إذ إنه كان يؤمن إيمانا مطلقا بأن الإله خلق البشر وقسمهم إلى قسمين السادة والعبيد. وأن العبيد العمال الزنوج إن لم يقبلوا بالأجور التي يعرضها عليهم مالكو المزارع البيض فما على السادة ومن على شاكلتهم إلا إجبارهم بالقوة للعمل في المزارع.

إنه بصورة عامة ضد تحرر الإنسان من العبودية وحين استعمل كلمة الكآبة ضد قانون العرض والطلب (الاقتصاد) شمل كذلك المؤسسات الخيرية وصناديق الاقتراع وحق البشر في الحرية.

وهكذا صال وجال ذلك العنصري غليظ القلب عديم الرحمة توماس كارلايل وحين تمادى كثيرا انبرى له عالم الاقتصاد الكبير آنذاك جون ستيوارت ميل وقارعه الحجة بالحجة على صفحات مجلة «فريزر» ومصرا على أن أجر العامل يجب أن يقرره قانون العرض والطلب.

ومن أجمل ما ذكر ميل «أن تاريخ البشرية يعلمنا أن رفاهية البشرية لم تأت من العبودية بل من الثورة على العبودية».
وفي رده على الإيمان المطلق لكارلايل حول أن الإله قسم البشر إلى قسمين (سادة وعبيد) قال الاقتصادي الكبير الإنسان الرحيم: إن كان هذا ما يرغبه ذلك الإله، كما يدعي كارلايل، فأول واجب على الجنس البشري أن يقاوم ذلك الإله.
ولهذا نقول إن نعت علم الاقتصاد بالكآبة صدر من شخص ذي نزعة عنصرية يؤمن بأن العبودية لبعض البشر هي الطريق الصحيح في الحياة وأن لا مساواة بين البشر حتى أمام الإله.

فحذار للسياسيين بالذات من وصف علم الاقتصاد بعلم الكآبة لأننا سنتهمهم بأنهم كارلاليلييون (نسبة إلى سيئ الذكر توماس كارلايل).

ولهذا يفرض علينا علم الاقتصاد أن نؤمن بأن التطور الاقتصادي يجب أن يقود إلى التنمية الإنسانية الشاملة التي تحمي كرامة الإنسان وتصونها.

التنمية التي من أهم صفاتها حرية الفرد بماله وبيته والأجر العادل من تعبه وعرقه. وهنا أختم بالأمل أن المتسببين في هذه الأزمة سينالون العقاب العادل سواء في الدنيا أو في الآخرة على ما نتج عنهم من أفعال سيئة قادت العالم إلى هذا الدمار المالي والذي نحتاج إلى زمن طويل للتخلص من آثاره.

د.فيصل بن صفوق البشير المرشد

0 التعليقات :

إرسال تعليق