تابع جديد المدونة عبر:

ضبط مصطلحي الخصخصة والفساد



أولا مصطلح الخصخصة:

مصطلح الخصخصة مصطلح فضفاض بشكل كبير وهو ما يجعل عملية ضبطه مسألة صعبة للغاية. فأبسط تعريف للخصخصة – وهو التعريف الشائع لها والذي من الخطورة بمكان الترويج له باعتباره التعريف الأمثل- هذا التعريف يقول : إن الخصخصة هي نقل أصول عامة أو خدمات عامة من الحكومة إلى القطاع الخاص, أي بمعنى آخر تحول إنتاج سلعة أو تقديم خدمة من الحكومة إلى القطاع الخاص وذلك غالبا من خلال بيع أصول مملوكة للدولة. وباختصار فان القاسم المشترك الأعظم لتعريفات الخصخصة تذهب إلى أنها "إجراء يستلزم ضمنيا إخضاع أنشطة حكومية لقوى السوق مهما كانت تلك الأنشطة". فتعاقد الحكومة مع شركة خاصة صغيرة لتتولى حراسة مبنى حكومي صغير يدخل ضمن بند الخصخصة مثله في ذلك مثل بيع منشأة حكومية عملاقة لشركة خاصة أو مجموعة شركات.

هذا المصطلح شاع استخدامه بدءاً من حقبة الثمانينيات من القرن الماضي مع تنامي مع يعرف بالسياسات الليبرالية الجديدة.
ففي تلك الفترة لاحت في الأفق بوادر نهاية الحرب الباردة بين القوتين الأعظم في ذلك الوقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق وذلك مع تنامي مظاهر انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية.


وكانت تلك الفترة البداية الحقيقية لانقضاض الرأسمالية على نظام دولة الرفاهية في المجتمعات الغربية وهو النظام الذي كان القطاع العام أحد أهم ركائزه الجوهرية. فقد كانت الرأسمالية تعتبر نظام دولة الرفاهية صمام آمان ضد أي اضطرابات اجتماعية يمكن تعرقل معركة الغرب ضد الشيوعية . أما وقد انتهت تلك المعركة أو كادت فما هو الداعي لصبر الرأسمالية على القطاع العام والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية؟ هكذا كان السؤال الذي طرحه منظرو الليبرالية الجديدة. ومن هنا انطلق قطار الخصخصة في الغرب بقيادة في أعتى معقلين للرأسمالية في العالم وهما الولايات المتحدة بزعامة رونالد ريغان وفي بريطانيا بقيادة مارغريت تاتشر. وسقطت قلاع القطاع العام في الغرب الواحد تلو الآخر تحت ضربات الشركات متعددة الجنسيات تحت دعاوى من قبيل أن الخصخصة تعني كفاءة التشغيل والمنافسة الحرة والأسعار الرخيصة والجودة الأفضل.

 وبسرعة انتقلت حمى الخصخصة لدول الجنوب وصارت ركنا أساسيا في مضمون أي التزامات تفرضها المؤسسات الدولية خاصة صندوق النقد والبنك الدوليين على الدول النامية كشرط لمساندة "إصلاحاتها الاقتصادية". ورغم أن الشائع عن الخصخصة هو أنها تعني بيع القطاع العام إلا أن هذا الأمر يشكل أحد أطياف تلك النوعية من الممارسات الاقتصادية إذ أن هناك أطيافاً أخرى للخصخصة تتخذ أساليباً متنوعة منها :
1- التعاقد التنافسي contracting out


بمقتضى هذا الأسلوب تقوم الحكومة بإبرام عقد مع شركة خاصة أو منظمة غير هادفة للربح لتقديم خدمة عامة أو جانب من خدمة عامة.

2- خصخصة الإدارة management contracts

تقوم الحكومة في إطار هذا الأسلوب بالتعاقد مع شركة خاصة من أجل إدارة منشأة عامة مثل إدارة المطارات أو المواني أو محطات الصرف الصحي أو مياه الشرب.

3- المنافسة بين القطاعين العام والخاص public-private competition

يتم في إطار هذا الأسلوب إجراء منافسة بين إدارة المنشأة العامة وبين القطاع الخاص على أن يتولى صاحب العرض الأكثر كفاءة تشغيل المنشأة العامة.

4- حقوق الامتياز franchise

ويقضي هذا الأسلوب بمنح شركة خاصة حقا احتكاريا لتقديم خدمة في منطقة جغرافية بعينها.
5- الأسواق الداخلية internal markets


يقضي هذا الأسلوب بالسماح للمنشآت العامة بمنح إدارات داخلها مثل إدارة التوريدات والصيانة والتدريب استقلالية على أن تقدم خدماتها للإدارة المركزية في منافسة على قدم المساواة مع القطاع الخاص بمعنى أن هذه الأقسام أو الإدارات الفرعية تعمل كما لو كانت وحدات أعمال مستقلة business units تعمل بحسابات الربح والخسارة.
6 – الكوبونات vouchers


ويقضي هذا الأسلوب بان تقوم الحكومة بشراء خدمة ما من القطاع الخاص (مثل خدمة المياه أو الكهرباء من شركات) ثم تمنح المواطنين شهادات قابلة للتحصيل لشراء تلك الخدمة على نحو يتيح للمستهلك الاختيار بين أكثر من شركة على أساس الكفاءة والجودة والسعر.

6- الاتجارية أو إضفاء الطابع التجاري على النشاط العام
commercialization


وتعني توقف الحكومة نهائيا عن تقديم الخدمة وتركها للقطاع الخاص.
8- المساعدة الذاتية self-help


وتعني طرح الخدمة العامة على منظمة غير هادفة للربح مثل نقل الإشراف على قطاعات مثل الحدائق العامة وحدائق الحيوان والمتاحف من الدولة إلى منظمات غير هادفة للربح.

9- إضفاء طابع الشركات على المنشآت العامة corporatization

وذلك بجعل منشآت الدولة تعمل وفقا لمنطق السوق والربح والخسارة وتتصرف بوصفها منظمة أعمال تستطيع زيادة رأسمالها وتٌجبر على دفع ضرائب وتركز على تعظيم الأرباح وتحقق عائد على استثماراتها.
10- بيع الأصول asset sale


وهو أشهر أنواع الخصخصة, والبيع قد يكون لشركة أو عدة شركات أو لشخص واحد يعرف بالمستثمر الاستراتيجي أو للعمال وإدارة المنشاة من خلال ما يعرف بخطة تمليك الأسهم للعاملين .

11 – التأجير لمدة طويلة long- term lease

تقوم الحكومة في هذا الأسلوب بتأجير منشآت مثل المطارات لفترات طويلة للقطاع الخاص أو ببيع المنشأة للقطاع الخاص ثم بتأجيرها منه لفترات طويلة !

12- بناء وتشغيل مشروعات البنية الأساسية من جانب القطاع الخاص private infrastructure development and operation

وهناك ثلاثة أنواع فرعية لذلك الأسلوب :

أ- البناء والتشغيل ونقل الملكية (BOT) وهو النظام الشهير باسم نظام حق الانتفاع وتقوم فيه الحكومة بالتعاقد مع القطاع الخاص لبناء والتشغيل لحساب القطاع الخاص لفترة بعينها ثم نقل ملكية المنشأة المعنية إلى الحكومة في نهاية الأمر.

ب- البناء ونقل الملكية ثم التشغيل BTO)) وفيه يقوم القطاع الخاص بالبناء ثم يتم نقل الملكية إلى الحكومة عند اكتمال البناء ثم يقوم القطاع الخاص بالتشغيل على أساس عقد مع الحكومة.

ج- البناء والاحتفاظ بالملكية والتشغيل (( BOO وفيه يحتفظ القطاع الخاص بملكية المشروع بعد بنائه له على أن يقوم بتشغيله على أساس عقد مع الحكومة.

بالطبع فانه يمكن الجمع بين أكثر من أسلوب حسب طبيعة النشاط الاقتصادي للمنشأة العامة و بما يتفق مع ما تعتبره الحكومة أمرا يصب في الصالح العام.

ثانيا مصطلح الفساد

أشهر تعريف للفساد هو ذلك الذي تتبناه منظمة الشفافية العالمية وهي منظمة تخذ من مدينة برلين مقرا لها وتعني بقضايا الفساد والشفافية في العالم ويتولى البنك الدولي تمويل جانب من نشاطها.

هذا التعريف يقول إن الفساد هو إساءة استغلال سلطة عامة من أجل تحقيق مصالح شخصية وهناك من يحدد ستة مظاهر للفساد وهي :

1- الرشوة

2- الاختلاس

3- الاحتيال

4- الابتزاز

5- المحسوبية

6- محاباة الأقارب

وسوف نستخدم الفساد في تلك الورقة بهذا المعنى وفي إطار تلك المظاهر.


الخصخصة والفساد ....جذور العلاقة.


هناك ما يمكن أن نسميه جذورا نظرية للعلاقة بين الفساد الخصخصة. فدعاة الخصخصة في الشرق والغرب خصوصا منظري الليبرالية الجديدة يؤكدون أن السبب الرئيسي للفساد في المؤسسات العامة لأية دولة هو هيمنة الدولة على النشاط الإنتاجي بالتالي على موارد المجتمع الاقتصادية الرئيسية وأنه لو قلصنا تلك الهيمنة إلى أدنى حد لها فان هذا الأمر كفيل بالحد من الفساد ومن ثم فان خصخصة القطاع العام تحد- في رأيهم- من الفساد وذلك للاعتبارين التاليين:

1- لأن الخصخصة تقلص من حجم الموارد الاقتصادية المتاحة لدى الحكومة.

2- لأنها تفتح الباب أمام المنافسة والمنافسة تعني الجودة والسعر الأقل والوفرة.

فهؤلاء المنظرون يرون أن الخصخصة تحد من التدخلات السياسية في النشاط الاقتصادي وهي التدخلات التي عادة ما تُعزى إليها أوجه القصور التي تعتري أداء منشآت القطاع العام. وباختصار فانه منذ الثمانينيات ويجري الترويج للخصخصة بوصفها مدخلا رئيسيا للحد من الفساد في القطاع العام ولزيادة كفاءة الإنتاج كما وكيفيا. ففي الدول المتقدمة يتم الترويج للخصخصة بوصفها جزء مما يعرف "بإصلاح الإدارة العامة" أما في الدول النامية فإنها تفرض من قبيل كونها جزاء جوهريا مما يعرف "ببرامج التعديل الهيكلية".

لكن هؤلاء الذين يتبنون هذه الرؤية ربما تغيب عنهم حقيقتان جوهريتان هما:

1- العلاقة المعقدة خصوصاً في الدول النامية بين السياسيين والمستثمرين.

2- الطبيعة الإستراتيجية للعديد من القطاعات الاقتصادية التي تجري خصخصتها.

فبالنسبة للنقطة الأولى فان ثمة حالات كثيرة يكون فيها السياسي الذي يتخذ قرار الخصخصة أو يمضي قدماً في ترتيباتها والمستثمر الذي يقتنص الصفقة هو نفس الشخص أو على الأقل له علاقة مصلحة أو شبكة مصالح من قريب أو من بعيد تتعلق بإنجاز الصفقة بثمن يمكن المساومة عليه وهذا ما قد يفتح الباب على مصراعيه أمام الفساد, كما يعطي هذا الأمر فرصاً لجماعات المصالح لدخول في صفقات بناء على معلومات غير متاحة للجميع insider deals .

أما بالنسبة للنقطة الثانية, فان خصخصة القطاعات الإستراتيجية مثل الماء والكهرباء يغري القطاع الخاص بالتورط في ممارسات فاسدة لضمان أقصى احتكار ممكن للسوق من خلال تخفيف حدة اللوائح التي تحكم أداء القطاع بعد خصخصته.

وبمعنى آخر فان الخصخصة بحكم طبيعتها البنيوية تفتح باب الفساد أمام نوعين من التواطؤ الفاسد وهما:
1- التواطؤ الرأسي بين السياسيين والبيروقراطيين من ناحية والقطاع الخاص الفاسد من ناحية أخرى.
2- التواطؤ الأفقي بين الشركات الخاصة التي تود اقتناص صفقات من عمليات الخصخصة والتي قد تتحالف فيما بينها للتأثير على أسعار المزادات أو المناقصات لتفادي ضخامة التكلفة أو لتعظيم الأرباح أو لتحقيق مزايا على حساب آخرين أو لاحتكار السوق.
وهذا كله يعني أن الخصخصة تفتح الباب أمام تنامي ظاهرة الفساد وأن استخدام الخصخصة كآلية للحد من الفساد يعد أمرا مشكوكا فيه.


ولعل هذا ما دفع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام سبعة وتسعين إلى طرح تساؤلات عن دور الفساد في تقويض الأساس المنطقي الذي تستند إليه فلسفة الخصخصة وهو الأساس المتمثل في تحقيق كفاءة الأداء للوحدات الانتاجية.

ولهذا لم يكن غريبا أن تعلن منظمة كورنر هاوس وهي منظمة بريطانية غير هادفة للربح في عام الفين في تقرير لها بعنوان : (تصدير الفساد ..الخصخصة والشركات متعددة الجنسيات والرشاوى) أن الشركات متعددة الجنسيات تدفع رشاوى قيمتها ثمانون مليار دولار سنويا لإتمام صفقاتها بما في ذلك صفقات الخصخصة .

فخصخصة الخدمات العامة كالماء والكهرباء غالبا ما تؤدي إلى ارتفاع أسعار تلك الخدمات مع خصخصة تلك القطاعات كما أن تصاعد الضغوط على العمال في إطار عملية الخصخصة – من خلال خفض الأجور وتسريح بعضهم والعقود المؤقتة- تجعلهم أكثر عرضة للفساد خاصة وأن المقابل هذه المرة أكبر ويكون المستهلك في هذه الحالة هو دافع الرشوة الذي يغري العامل بالتحايل كي لا يدفع فاتورة الخدمة أو السلعة كاملة.

ولعل هذا الأمر ما يدعو البعض إلى التشديد على أن يكون هناك معايير لقياس كفاءة عملية الخصخصة وتشمل هذه المعايير الجودة والسعر والوفرة.

وهذا يعني أيضا إنه إذا افترضنا أن التدخل السياسي في النشاط الاقتصادي يؤدي إلى الفساد فان هذا لا يعني بالضرورة أن تكون الخصخصة هي الحل الحاسم للحد من الفساد.

ففي أحيان كثيرة على سبيل المثال حل محل احتكار الدول لقطاع استراتيجي ما احتكار القطاع الخاص للقطاع على نحو ارتفعت معه الأسعار وتراجعت معه جودة السلعة أو الخدمة.
ولعل هذا ما دفع حتى أشد مؤدي الخصخصة على التشديد على ضرورة شفافية العملية ووجود لوائح واضحة تحكمها.

منقول للفائدة

0 التعليقات :

إرسال تعليق