تابع جديد المدونة عبر:

اتخاذ أفضل القرارات لإدارة الأزمات

خلال مشروع بحث استمر على مدى 3 سنوات، وتناول إدارة الأزمات في الشركات الكبرى، عقدنا حوارات مع العشرات من المسؤولين التنفيذيين من مختلف قطاعات الأعمال.

 وتكشف النتائج، التي توصلنا إليها، أن إدارة الأزمات لا بد أن تكون شخصية حتى تكلل بالنجاح.


لطالما كانت إدارة الأزمات واحدة من الأدوار الأساسية، التي يكلف بها أي مسؤول تنفيذي، ولكن لم تكن تبعات الإدارة غير الفعالة للأزمات واضحة، كما هي عليه اليوم. ويمكننا أن نأخذ في الحسبان ثلاث حالات بارزة، وهي: انفجار منصة «ديب ووتر هورايزون» التابعة لشركة «بريتش بتروليوم» (بي بي) في أبريل من العام 2010، وقيام شركة «تويوتا» اليابانية باستدعاء ما يزيد على 9 ملايين سيارة من الأسواق خلال العامين 2009 و2010، وانهيار بنك «ليمان براذرز» في ذروة أزمة الائتمان خلال سبتمبر من العام 2008.

وهذه الحوادث الثلاث كلها حصلت نتيجة مخاطر شديدة جداً وأقل احتمالاً، كما كانت العواقب في الحالات الثلاث وخيمة جداً، من حيث عدد الضحايا والضرر البيئي والنفقات الاقتصادية.


ولا توجد سبل بسيطة لتجنب هذه الأنواع من المخاطر، لكن الشواهد تبرهن أن بعض الشركات تتمتع بقدرة أفضل على إدارتها من شركات أخرى. وتظهر أزمة الائتمان هذه النقطة بشكل واضح جداً، ففي الوقت الذي انهار فيه «ليمان براذرز»، و«بير ستيرنس»، تلقى كل من «يو بي إس»، و«سيتي بنك»، و«ميريل لينش» و«رويال بنك أوف سكوتلند» ضربة موجعة، بينما نجت الكثير من البنوك الأخرى، ومنها «غولدمان ساكس»، و«جيه بيه مورغان تشيس».


فبأي شيء نفسر المصير المختلف تماماً للرابحين والخاسرين في هذه الفترة من الاضطراب غير المسبوق؟


إن برهاننا، باختصار، هو أنه في السنوات التي سبقت أزمة الائتمان، كانت شركات الخدمات المالية تركز بشكل غير مستحق على إضفاء الصبغة الرسمية على إدارة الأزمات، وذلك من خلال وضع إجراءات متعددة المراحل، مع الحصول على عدد كبير من التوقيعات لتقييم المخاطر التي تستحق الاهتمام.

 كما اعتمدت تلك الشركات على إخراج إدارة الأزمات عن أطرها المحددة، في ظل اللجوء إلى الخبرة وموافقة الأطراف الخارجية، كالمدققين والمشرعين ووكالات التصنيف الائتماني.


الأعمال الخطرة


الخطورة هي التأثير السلبي المتوقع والذي يحتمل أن ينشأ من حدث مستقبلي، ويمكن تقييمها كنتاج لاحتمال وقوع حدث مستقبلي وحجم الخسائر المصاحبة لهذا الحدث.

وتواجه الشركات الكثير من المخاطر بمختلف أنواعها طيلة الوقت، لذلك فإنها بدلاً من أن تفكر في كيفية إزالة هذه الخطورة بصورة كلية، فإنها تعمد إلى التعريف بكيفية إدارة أزماتها على نحو مناسب. وفي حقيقة الأمر، فإنه من البديهي في عالم الأعمال أن الأنشطة التي تتسم بالخطورة تحتاج إلى معدلات كبيرة من الإيرادات لتحويلها إلى استثمارات جيدة، وبذلك فإن الشركات، التي تصبح قادرة إلى حد كبير على إدارة أزماتها، تحقق إيرادات كبيرة بمرور الوقت.


وتتطلب إدارة الأزمات من الشركات الموازنة بين نوعين مختلفين من المخاطر: الخطورة «الإيجابية الزائفة» المصاحبة للاستثمار في الفرص المحتملة غير الظاهرة، والخطورة «السلبية الزائفة» المصاحبة للفشل في التعامل مع الفرصة غير الظاهرة. وتكون نتائج الأخطاء الإيجابية الزائفة والسلبية الزائفة مختلفة تماماً، ذلك أن الإدارة الفعالة للأزمات تقوم على تقييم إيجابيات وسلبيات هذين النوعين من الأخطاء، وتعديل عمليات اتخاذ القرار وفقاً لها.


 فعلى سبيل المثال، لو كانت إحدى شركات النفط والغاز تبدي حذراً شديداً إزاء الاستثمار في آبار النفط الجديدة، يمكنها أن تتجنب الأخطاء الإيجابية الزائفة المكلفة المتمثلة في الآبار الجافة، لكنها تخاطر بوضع المال على الطاولة، وهو ما يحفز المنافسين الآخرين على أخذه. وبمعنى آخر، فإنه كلما تراجع نوع من المخاطر، فإنه يبرز نوع آخر منها. إذاً، كيف يمكن للشركات إدارة الأزمات؟ وكيف يمكنها الوصول إلى المستوى اللازم من المعرفة والخبرة حول القرارات الصعبة؟ وكيف يمكنها أن تضمن تصرف الأفراد بما يتوافق مع مصلحة الشركة، وليس مع مصالحهم الذاتية؟


من الناحية التاريخية، فإن الإجابة عن هذه التساؤلات تمثلت في النموذج المعروف بـ«البيروقراطية»، وهي التشريعات والهياكل التي استخدمت للسيطرة على النشاط. ومع أن هذا المصطلح يستخدم كثيراً بمعنى يحمل نوعاً من السخرية، إلا أن البيروقراطية لها مزايا كثيرة، فهي تشجع على وضع قواعد وإجراءات رسمية تتجاوز الخصوصيات الفردية والمعتقدات التاريخية.

كما أن للبيروقراطية أيضاً جوانب سلبية أخرى، فقد تصبح جامدة ومتخصصة بشكل مفرط، ويمكن أن تشجع على التفكير الجماعي، وربما تؤدي إلى التخلي عن الصفات الشخصية وفقدان الملكية من جانب الموظفين.


وتكون مساوئ البيروقراطية، التي تشمل تبدد الشخصية وفقد الملكية، الأكثر بروزاً في هذا السياق. فمع نمو الشركة، فإنها تكون بحاجة إلى إنشاء أنظمة رسمية لتحقيق الوفورات في الحجم والاتساع، ولكن يتعين عليها الموازنة بين ذلك وبين المرونة والمسؤولية الشخصية، وحرية التعبير التي تنبع من بيئة صغيرة تنتشر فيها ثقافة إنشاء المشاريع على نطاق واسع. ورغم أن هذه النقطة يشار إليها في سياق الحديث عن الإبداع والابتكار، فإنها تعد في الوقت ذاته فعالة في إدارة الأزمات.


الرابحون والخاسرون


لنأخذ، على سبيل المثال، الرابحين والخاسرين في أزمة الائتمان. وفي ظل وجود بعض حالات الفشل البارزة بين صغار اللاعبين، مثل صناديق التحوط، فقد تحملت البنوك الكبرى الجزء الأكبر من الخسائر على نحو غير متناسب.

ومن بين الأسباب التي أدت إلى ذلك أن شركات الخدمات المالية الصغيرة لم تكن لديها تصنيفات ائتمانية أو موازنات عمومية كي تحمل شرائح التزامات الديون المضمونة المعروفة باسم «الالتزامات بضمان الدين»، والتي أسفرت في النهاية عن التسبب في مشاكل للبنوك الاستثمارية الكبرى. ومن الأسباب الأخرى أيضاً قرب صناع القرار من الحدث، ودرايتهم الواسعة بما يحدث، ويتحملون المسؤولية الشخصية عن نتائج قراراتهم.


وقد صرح لنا أحد المسؤولين التنفيذيين في واحد من صناديق التحوط الكبرى قائلاً، «توجد لدينا أنظمة رسمية قوية، كما أننا نتواصل بشكل طبيعي، ونطرح آراءنا حول المخاطر التي يمكن أن نتعرض لها. كما نتلقى ردوداً على ما نصدره من أحكام».


وكان لدى «بنك جي بيه مورغان تشيس»، وهو أحد اللاعبين الكبار الأقل تأثراً بالأزمة، فريق أعلى يتمتع بقدر شديد من التماسك، وكانت لديه أجندة خاصة لإدارة الأزمات. وكما هو معروف الآن على نطاق واسع، فإن جامي ديمون، المدير التنفيذي للبنك، وفريقه لاحظوا مؤشرات تحذيرية مبكرة «خلال العام 2006» لأزمة الائتمان على الرهون والمخاطر السوقية على التزامات الديون المضمونة، لذلك فقد قرروا خفض مستوى التعامل مع الأسهم المدعومة بالرهن.


وعلى النقيض من ذلك، فإن الكثير من البنوك الاستثمارية الكبرى لديها المئات من الموظفين الذين يعملون في إدارة الأزمات، وذلك بتطبيق الإجراءات الموضوعة بعناية فائقة، لدرجة أن المديرين أصحاب النية الحسنة لم يعودوا قادرين على رؤية الوضع برمته.

ووفقاً لأحد التقارير، «فقد نتج الفشل في إدارة الأزمات (من جانب البنوك) من فرط الاعتماد على القرارات ذات المستوى المتدني من الخطورة في شركات السلع، وخطوط المنتجات والمكاتب التجارية، التي تجاهلت مدى مساهمة هذه التعاملات في الجانب العام للخطورة في الشركة».


وكانت نتيجة ذلك أن بعض البنوك الاستثمارية عمدت إلى اتخاذ قرارات إيجابية زائفة وسلبية زائفة.

ولم تبتعد هذه البنوك عن خطوط التجارة الواعدة، التي نشأت فيها شركات أخرى، مثل صناديق التحوط وبيوت الأسهم الخاصة فحسب، ولكنها تكبدت أيضاً خسائر تجارية هائلة في بعض خطوط التجارة، التي اختارت الاستثمار فيها. وحينما ترتكب الشركة هذين النوعين من الأخطاء معاً في الوقت نفسه، فإن ذلك دليل أكيد على أن النظام غير مجدٍ.


3 منهجيات


إذاً، أين أخطأت البيروقراطية؟ في رأينا، فشلت البيروقراطية، لأنها سمحت للأشخاص بعزل أنفسهم على الصعيد القانوني والأخلاقي عن النظام الذي يعملون فيه. ونعتقد أن هناك ثلاث منهجيات تكاملية لإدارة الأزمات في الشركات الكبرى:


إضفاء الصبغة الرسمية على إدارة الأزمات، ويكون ذلك بتطبيق الإجراءات والقواعد في كل مناحي النظام، لتقييم وتحديد المخاطر التي تستحق الاهتمام.


الاستعانة بالأطراف الخارجية، ويكون ذلك من خلال استخدام الخبرة والموافقة من جانب الأطراف الخارجية «الأطراف الثالثة»، والتي يفرض القانون بعضها «كالمدققين والمشرعين»، أما الأطراف الأخرى، فتكون اختيارية، لكنها تستخدم على نطاق واسع «مثل وكالات التصنيف الائتماني». وتعتبر هاتان المنهجيتان من مظاهر البيروقراطية، فالأولى تسيطر عليها إدارة الشركة، والثانية تسيطر عليها الأطراف الثالثة.


التخصيص، ويكون من خلال إلقاء مسؤولية التقييم والحكم على المخاطر لهؤلاء الأشخاص المعنيين باتخاذ القرارات، والطلب منهم أن يتكيفوا مع تبعات هذه القرارات.


وفي حين أن هذه المنهجيات الثلاث كلها تعتبر ضرورية، وتستخدم في كل الأوقات بدرجات متفاوتة، فإن المشهد الحالي في القطاع المصرفي والقطاعات الأخرى يدل على أننا بحاجة إلى ترجيح الميزان ناحية التخصيص، خصوصاً في الشركات الكبرى. وكثيراً ما يطلق على «غولدمان ساكس»، وهو أحد أفضل اللاعبين خلال أزمة الائتمان، بأنه ذروة سنام التخصيص. وقد أوردت صحيفة «فاينانشال تايمز» الرأي التالي، «عادة ما ينظر الموظفون في (غولدمان) إلى أنفسهم كتابعين للبنك، وليس لخط العمل، فهناك روح جماعية قوية من المسؤولية المشتركة».


وفي «جيه بيه مورغان تشيس»، فإن جامي ديمون معروف بدوره الشخصي الفعال في تقديم الإحاطات حول المخاطر. ولكن «غولدمان ساكس»، و«جيه بيه مورغان تشيس» يعتبران استثناءً واضحاً، غير أن الشركات الأخرى العاملة في هذا القطاع كانت تعتمد، ولاتزال تعتمد بقوة، على المنهجيات البيروقراطية في إدارة الأزمات.


وتطبق منهجية التخصيص لإدارة الأزمات في مجالات كثيرة مختلفة. ففي صناعة المستحضرات الطبية، على سبيل المثال، تقوم الشركات باستثمارات كبيرة في العقاقير الجديدة بشكل مستمر. ويوجد لدى هذه الشركات أنظمة رسمية ذكية وتشريعات خارجية صارمة، لكنها إضافة إلى ذلك تكون قادرة على الاعتماد على القواعد الأخلاقية القوية والمعايير الاحترافية للإخاء الطبي، وهو نوع من التخصيص. وكما أكد أحد المراقبين، فإن هؤلاء الخبراء يأتون مدفوعين بالرغبة العامة في تحسين المعرفة الشاملة بالمنتجات، وليس الرغبة الخاصة أو التجارية في توزيعها.


وهذه المسؤولية المشتركة بين الخبراء الطبيين هي التي تساعد على الحد من المخاطر الإيجابية الزائفة.


ويمكننا أن ننظر في مجال آخر مختلف كلياً، ألا وهو مهنة الخدمات الاجتماعية. فقد حدثت حالة مأساوية في المملكة المتحدة خلال العام 2008، حينما توفي «الطفل بيتر» على أيدي أمه وزوجها، مع وجود الكثير من الأدلة على إيذائه جسدياً.


 وبعد إجراء المزيد من التحريات، بات من الواضح أن شركة الخدمات الاجتماعية المحلية أضفت على خدمات الدعم، التي توفرها صبغة رسمية إلى الحد الذي كان يقضي فيه الاختصاصيون الاجتماعيون ما بين 60 إلى 80 بالمئة من وقتهم في الأعمال الورقية الروتينية، بدلاً من أن يتحدثوا في إطار عملهم للعائلات عن الأطفال المعرضين للمخاطر.


وكان هناك 60 موعداً منفصلاً مع الطفل بيتر وأمه، لكن لأن هذه المواعيد كانت موزعة على عدد كبير من الاختصاصيين الاجتماعيين، فإن القصة بكاملها لم تظهر إلا في وقت متأخر جداً. وخلص أحد التحقيقات في تلك القضية إلى أن تكنولوجيا الكمبيوتر «غيرت النظام المتبع، حيث كان الاختصاصيون الاجتماعيون يكتبون ملاحظاتهم عن القضية بأسلوب سردي، وهو ما يجعل من السهل على مختلف المسؤولين جمع التفاصيل حول القضايا المعقدة بسهولة». أو أن إضفاء الصبغة الرسمية على إدارة الأزمات، كما هو معروف في لغتنا، وذلك من خلال المراقبة الكمبيوترية والأهداف المفروضة من الناحية الوطنية، أدى إلى إلغاء منهجية التخصيص، التي يرى الكثيرون أنها جوهر العمل الاجتماعي الفعال.


اللمسة الشخصية


في الوقت الذي يتميز فيه مفهوم التخصيص بجاذبيته البديهية، فإن الكثير من الناس يعانون في كيفية تطبيقه في الشركات الكبرى التي تعتمد تحديداً على مجموعات كبيرة من الأنظمة الرسمية لإنجاز أعمالها. ومن خلال بحثنا، فإننا نقترح ثلاثة عناصر ضرورية وداعمة.


من المعروف أنه من الواجب على صناع القرار أن تكون لديهم معلومات عالية الجودة، وأدوات تحليلية فعالة، وعلى مستوى عالٍ من الكفاءة في تفسير هذه المعلومات.


 لكن من النادر أن تجتمع هذه العناصر معاً. وكثيراً ما تتخذ القرارات بالاستناد إلى رؤية ضعيفة الجودة من مصادر ذات مصلحة ذاتية، مع تشتت المعلومات ذات الصلة في مختلف أقسام الشركة.


وتعطينا أزمة الائتمان الكثير من الأمثلة على حالات فشل من هذا النوع. فاستحواذ «بنك لويدس تي إس بي» على شركة «إتش أو بي إس»، على سبيل المثال، كان قراراً يحمل خطورة كبيرة، ولا سيما أنه تم اتخاذه بناءً على رؤية محدودة جداً. ففي الوقت الذي خضع فيه مجلس إدارة «لويدس تي إس بي» لضغوط كثيرة من «بنك أوف إنغلاند»، فإن مسؤوليته الأساسية كانت تجاه المساهمين، لكنه خذلهم.


وعلى مستوى أقل بكثير، فقد بحثت الدراسات في توريق قروض الرهن قبيل أزمة الائتمان، وكشفت هذه الدراسات أنه حينما تم توريق القروض وبيعها إلى جهات غير البنوك، فإن احتمال العجز عن سداد هذه القروض بات أكبر بكثير منه عندما بيعت هذه القروض إلى جهات تابعة لمنشأ الرهن. وافتقدت الأطراف غير البنكية في جوهرها إلى الرؤية ذات الجودة العالية، التي تؤهلها لإطلاق الأحكام الصحيحة حول المخاطر التي تتخذها.


لذلك فإن التخصيص الفعال لإدارة الأزمات يقوم على بناء نظام يضع المعلومات الصحيحة في أيدي هؤلاء، الذين يطلقون الدعوة، ومن ثم يحولون هذه المعلومات إلى رؤية من خلال التجربة العميقة. ومن الأمثلة التي تبرهن على كيفية عمل ذلك في مكان مختلف، ما تقوم به قوة الشرطة البريطانية من جمع المعلومات يومياً عن الأنشطة الإجرامية والشؤون المجتمعية وغيرها من الأمور الأخرى.


وعادة ما يتم التعامل مع هذه المعلومات بسرعة، ومن دون ملاحظة دقيقة، لكن فجأة يقع حادث، ويمثل خطورة حقيقية. ولإشعار نفسها بالمخاطر المحتملة، واعترافاً كذلك بأخطاء الماضي، فقد وضعت الشرطة خلال تسعينات القرن الماضي منهجية الحوادث الخطيرة، التي يمكن من خلالها لموظف بأي رتبة أن يستدعي مجموعة من القوات المختلطة، للتأكد من كل المعلومات المتاحة عن حدث ما، وإطلاق دعوة للتعامل معه.


 ويطلق تحذير من الحوادث الخطيرة بين الفينة والفينة، وذلك عندما تهتز «أجهزة الاستشعار» لدى الضابط، لكنها توفر طريقة فعالة للاستدعاء السريع لمتابعة مختلف الرؤى حول قضية ما، واتخاذ قرار مدروس.


كما طورت الكثير من الشركات الكبرى تقنيات معينة لتحسين جودة الرؤية حول القرارات المهمة. وعلى سبيل المثال، يعمل لدى إحدى شركات التعدين الكبرى فريق تقييم مستقل يقدم تحليله الخاص حول مشروع استثماري مقترح «كمنجم جديد» قبل اتخاذ القرار.


وتماماً كما يحدث في نظام المحاكم القانونية، فإن اللجنة الاستثمارية تراجع المقترح المقدم من الوحدة التجارية، للبحث عن صناديق استثمارية، وبعد ذلك تنظر في تقييم الفريق المستقل. ومع وجود رأيين، تتحسن جودة الرؤية، ويقل احتمال الاستثمار الإيجابي الزائف بشكل كبير. وتتمتع هذه الشركة في الوقت الراهن بسجل تحسد عليه في المشاريع الاستثمارية التعدينية المربحة.


المسؤولية الشخصية


لا عجب أن إدارة الأزمات الفعالة تتطلب المسؤولية الشخصية، لكن الكثير من الشركات تفهم هذه المسؤولية بشكل خاطئ. وفي بعض الأحيان يكون هناك الكثير من صناع القرار، أو يكون صانع القرار معزولاً جداً عن الحدث حتى يشعر بالمسؤولية الكاملة. وكثيراً أيضاً ما يكون هناك افتقار للربط بين القرارات المتخذة والفوائد المترتبة.


فعلى سبيل المثال، وفي السنوات التي سبقت أزمة الائتمان، كانت الكثير من البنوك تضارب في الأسهم الخطرة، لزيادة نمو الإيرادات، أو الفوائد قصيرة الأجل، من دون أن تهتم كما ينبغي بالتكلفة المناسبة لرأس المال، أو الطبيعة طويلة الأجل لهذه الأسهم. وبات من الحكم التقليدية بين المعلقين الآن أن التركيز على الأرباح المحاسبية قصيرة الأجل، واستغلال المحفزات الموجهة بدرجة كبيرة من حولها كان عاملاً أساسياً في ظهور الأزمة المالية الراهنة.


لكن ما نحن بحاجة إليه، بدلاً من ذلك، هو وجود نظام تتم فيه مكافأة المسؤولية الشخصية، ويكون الفرد أو الفريق صاحب الرؤية الأعلى جودة هو المنوط أيضاً بصناعة القرار. ومن بين المبادئ الأساسية التي يعرفها قبطان كل طائرة، على سبيل المثال، اتخاذ القرارات الخطرة وفقاً للمستويات المناسبة. و«المناسبة» هناك تعني مستوى ما يتمتع به الفرد من خبرة ضرورية ونضج لاتخاذ القرارات الجيدة.


 فربما يوكل القبطان بعض القرارات إلى الفنيين الهندسيين أو المكلفين، لكن قرار إقلاع الطائرة يظل من مسؤوليته فقط، وليس مقصوراً على رغبة الجهات المتحكمة في حركة النقل الجوي أو المسؤول التنفيذي للشركة. والمنطق ذاته ينطبق على ممارسة العمل الشرطي. ففي نموذج الحادث الخطير الذي أشرنا إليه آنفاً، فإن المبدأ الأساسي هو مفهوم القيادة، وبمقتضاه يتولى الفرد القيام وينسق الرد، ولو كان ذلك يتعارض مع الكثير من الأقسام أو القوى الشرطية.


وفي عالم الأعمال، فإن المسؤولية قد تكون مع فريق أو فرد بعينه، لكن المنطق هو ذاته في الجوهر. فكل عضو مجلس إدارة في مؤسسة عامة، وكل شريك في اتفاقية شراكة، يعي مسؤوليته الرسمية. لكن رأس المؤسسة ليس المستوى المناسب لاتخاذ القرارات. وكما هي الحال مع شركات الطيران والشرطة، يجب على الشركات أن تبحث عن آليات لنقل المسؤولية الشخصية، نزولاً إلى الأشخاص القريبين من الحدث، من دون أن ينال ذلك من المسؤولية الشاملة لكبار الموظفين عن القرارات التي تتخذ تحت أعينهم.


الثقافة الداعمة


لا بد أن تدعم قواعد السلوك غير الرسمية في الشركة، أو ما يعرف بثقافة الشركة، مبادئ الرؤية ذات الجودة العالية والمسؤولية الشخصية. لكن هذه القواعد غير الرسمية تسفر في الكثير من الأحيان عن تقويض فاعلية اتخاذ القرار. وتظهر بعض الشركات ثقافة الخوف، حيث تخفي المعلومات السيئة عن كبار المسؤولين التنفيذيين، وبعض الشركات تسودها ثقافة الجشع الواضحة، حيث ينظر كل شخص إلى نفسه فقط، لكن هناك بعض الشركات الأخرى التي تعاني من الثقافة المرتزقة المحضة، حيث لا تسامح على الإطلاق مع الأخطاء الإيجابية الزائفة.


ولا توجد طريقة سهلة بالتأكيد لتأسيس ثقافة داعمة، وقد يستغرق الأمر سنوات كثيرة من الرسائل والتحركات المتناغمة من قبل فريق القيادة. ومع ذلك، يوجد هناك مبدآن أساسيان يمكن تطبيقهما.


 أما المبدأ الأول، فهو الحاجة إلى الشفافية في تحديد الهدف، وهو سبب يأتي في رتبة عالية، ويبرر وجود الشركة. وتمتلك الكثير من البنوك الاستثمارية، ومنها «ليمان براذرز»، و«بير ستيرنس» بيانات رؤية رسمية، لكن أزمة الائتمان أثبتت أنها خطابات جوفاء. ويقصد بشفافية الهدف الالتزام الواضح والمستمر بمجموعة من الأهداف غير المالية. ولنأخذ على سبيل المثال إحدى شركات التعدين الرائدة، التي التزمت منذ عقد من الزمان بالقضاء على أحد المخاطر، ألا وهي إصابات الموظفين في العمل.


واتفق جميع القادة على هذا الهدف، وتم تدريب الموظفين على معايير السلامة المتبعة في الشركة، وتمت مراقبة معايير حساب إصابات الوقت الضائع في جميع المواقع، وكان هناك ربط بين مكافآت المديرين ومعايير السلامة في الشركة. وحتى الآن، تبدأ كل الاجتماعات، حتى بالنسبة إلى كبار موظفي المكاتب، بآخر مستجدات السلامة.


 ومن هنا، فقد غرس التفكير في السلامة في عقول الموظفين في جميع أنحاء الشركة، ولذلك أصبح سجل السلامة لتلك الشركة مثيراً للإعجاب. ويمكننا القول، «إن التحول الثقافي يكون ممكناً حينما يكون متصلاً بهدف واضح جداً يمكن لأي فرد تحديده، وعندها يتعزز هذا التحول من خلال تناغم الإجراءات». ومن بين المميزات الأساسية لمنهجية الحوادث الخطيرة في العمل التي ذكرناها سلفاً الاعتراف بجهود الفرد الذي يدعو إليها، حتى لو ثبت أنها إنذار كاذب.


أما المبدأ الآخر، فهو عدم اللجوء إلى تبسيط الصورة الكبيرة. فقد أجريت دراسات أكاديمية على مصانع للطاقة النووية وحاملات للطائرات، وهي أماكن يمكن أن يؤدي وقوع أخطاء فيها إلى حدوث عواقب كارثية.


وكان الهدف من هذه الدراسات فهم كيفية عمل هذه المؤسسات ذات «الموثوقية العالية». واتضح من خلال تلك الدراسات أن أحد المزايا الأساسية، التي تتمتع بها تلك المؤسسات، هي أن الموظفين الأفراد الذي يعملون في أنشطة الصيانة الروتينية، على سبيل المثال، يتوقع منهم تحمل مسؤولية تقييم مدى موافقة وظيفتهم للصورة الأكبر للعمل ككل. وبدلاً من تقسيم كل عمل، يتم تشجيع الموظفين على النظر إلى ما وراء الحدود المؤسسية، لفهم مدى تأثير عملهم في الآخرين.


نظام متوازن


إن أساسيات المنهجية المتخصصة لإدارة الأزمات بعيدة كل البعد عن أن تكون مفاجئة. ورغم ذلك، لا ينبغي النظر إلى التخصيص كبديل لإضفاء الصبغة الرسمية، أو الاستعانة بالأطراف الخارجية في إدارة الأزمات، ولكن لا بد أن يكون منهجية تكاملية. وتعمل شركات الخدمات المالية التي تخضع لإدارة جيدة على الموازنة بين النماذج الثلاثة بشكل أساسي.


وملكية القرار الحقيقي للموافقة على الخوض في أمر ما يتسم بالخطورة تكون مع المدير أو المضارب الذي يتمتع بمستوى مناسب من الخبرة والرؤية. وهناك أنظمة رسمية لوضع قيود للتعامل مع أنواع المخاطر التي يمكن للشركات أن تتسامح فيها. وتتم الاستعانة بالوكالات الخارجية من حين إلى آخر للتحقق والتأكد من جودة العمليات الداخلية.


وهنا، يأتي «غولدمان ساكس» كمثال آخر متميز. وكعلاقة شراكة سابقة، فإن هناك درجة كبيرة من المسؤولية والملكية الشخصية تفوق ما هو موجود في الكثير من البنوك الأخرى، ولكن وفقاً للمدير التنفيذي للبنك، لويد بلانكفين، «ينبغي فصل المخاطر وأدوات التحكم عن الوحدات التجارية بشكل كامل».

ويعد التخصيص وإضفاء الصبغة الرسمية في العمل في «غولدمان ساكس» بمنزلة الأساسين المتناقضين والمتكاملين لعملية صناعة القرار الداخلية الفعالة، فهما يجعلان الشركة في حالة تناغم.


الكاتب :- جوليان بركنشو أستاذ الإدارة الاستراتيجية والدولية

0 التعليقات :

إرسال تعليق