يمكن النظر إلى التعليم من وجهة نظر اقتصادية على إنه يجمع بين الاستهلاك والادخار معاً وفي وقت واحد. حيث إن للإنفاق على التعليم (سواء من قبل الفرد أم المجتمع) هدفان:
الأول: التعليم للتعليم: أي للاستمتاع بالمعرفة والثقافة بذاتها، ولبناء الشخصية وحسن التصرُّف، ويتجلى هذا الهدف أكثر في التخصصات الإنسانية والاجتماعية. وهذا الهدف استهلاكي بحت (لإشباع حاجة معنوية ذاتية).
الثانـي: التعليم للحياة: وهو لغرض اكتساب معارف وخبرات عملية جديدة تؤهل المتعلمين مستقبلاً في الحصول على عمل أفضل وبأجر أعلى مقارنة بالآخرين (كلما ارتقى مستوى التعليم درجة)، وبالتالي إمكانية ارتقاء البلد إلى مستويات أعلى من التطوّر من خلال الاستفادة من الخبرات والمعارف المتحصَّلة للأفراد، خصوصاً إذا كان التعليم في الجوانب التطبيقية والتي لها تماس مباشر مع سوق العمل. وهذا الهدف ادخاري بحت.
وللتعليم الكثير من المنافع والمزايا التي يقدمها سواء للفـرد أم للمجتمع، ومن أهم منافعه الاقتصادية ما يلي:
أ. زيادة الإنتاجية.
ب. زيادة الادخار والاستثمار.
ج. زيادة حجم الاستخدام وتقليل نسب البطالة.
د. إبداع التكنولوجيا وتحسينها وتطويعها والتعامل معها.
هـ. الإسهام بشكل إيجابي في المهارات الإدراكية، الطموح الشخصي، التنافس، والإبداع.
و. تشجيع إسهام المرأة في النشاط الاقتصادي.
ز. تخفيض معدل نمو السكان.
ح. ارتفاع معدل العمر المتوقع.
ط. المساعدة في تحسين الدخل وتوزيعه وتكافؤ الفرص.
إلا إنه في بعض الحالات قد يكون التعليم سبباً في هجرة العقول، أو سبباً في بطالة المتعلمين خصوصاً إذا كان التخصص غير منسجم مع متطلبات السوق والمرحلة الاقتصادية للبلد.
ومنذ بدايات التسعينيات ومروراً ببدايات القرن الحادي والعشرين واجهت الدول العربية تحديات اقتصادية عديدة خارجية وداخلية ألقت بظلالها على التعليم في تلك الدول. من هذه التحديات ما يحتاج إلى المواجهة لتقليل سلبياتها، ومنها ما يتطلب المواءمة للاستفادة من إيجابياتها.
ويحاول هذا البحث التركيز على أهم هذه التحديات وأكثرها تأثيراً، وتحديد الوسائل المطلوبة للوصول إلى رؤية أكثر وضوحاً عن دور قطاع التعليم سواء في مواجهة التحديات الاقتصادية أم للمواءمة معها، ثم يقترح مجموعة من المقترحات التي قد تحدّ من التأثيرات السلبية لتلك التحديات وتعمق إيجابياتها.
أولاً: التحديات الاقتصادية الخارجية:
من أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجهها العملية التعليمية العربية ما يلي:
1. العولمة:
أدى الاتجاه العالمي نحو عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة والتي يشهدها العالم منذ العقد الأخير من القرن الماضي، إلى تغيرات ثقافيـة وقيميـة تزداد كل يوم وتيرتها وتأثيراتها على كل مجتمعات العالم، وستشكل هذه أحد أهم التحوّلات والتغيّرات التي أثَّرت وستؤثر في تشكيل مجتمع القرن الحادي والعشرين، ومن ثم معالم وتوجيهات المؤسسات التعليمية والعلمية والثقافية فيه.
والعولمة تعني بالأساس (فيما يخص مؤسسات الدولة) أموراً أربعة (1): أولها تفكيك الدولة القومية ككيان سياسي، وثانيها تمييع وتذويب مفاهيم الوظيفـة الاجتماعيـة للدولـة، وثالثها إعادة صياغة العلاقة بين رأس المال والدولة، ورابعها إحداث تغيير شامل في مفاهيم الليبرالية الجديدة.
إن مفهوم العولمة يدفع بفقدان الدول العربية لسيادتها وهويتها، واندماجها فيما يسمى بالقرية العالمية أو الكوكبية وقد يؤدي ذلك إلى طمس الهوية الثقافية، خصوصاً وإن مواطني هذه الدول في الوقت الحاضر غير مؤهلين تربوياً بشكل كامل لمجابهة الآثار المترتبة على انتشار مفهوم العولمة وتشعب آلياتها.
ولكن هل يعني هذا أن نتقوقع على ذاتنا ونغلق الباب في وجه أية ثقافات وافدة إلينا ؟ أو أن نستسلم ونسلِّم لها ونتَّبعها بشكل مطلق ؟ أم يتوجب علينا التكيُّف مع هذه الثقافات من موقع التفاعل والتأثير المتبادل ؟
ولمواجهة هذا التحَّدي، ينبغي على القائمين على النظام التربوي العربي أن يضعوا في اعتبارهم عند إعداد السياسة التربوية المستقبلية الأمور التالية (2):
أ. بناء إستراتيجية تربوية عربية بعيدة المدى تسمح بالتفاعل الحقيقي مع العولمة.
ب. إعداد الفرد العربي القادر على إدراك إن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية لا يمكن القضاء عليها عن طريق الانغلاق على الذات ورفض الآخر، وإنما يتأتى بإعادة الموروث القديم (المكوِّن الرئيسي للثقافة الوطنية) واستنفار عوامل تقدمه.
ج. تنمية اعتزاز الفرد العربي بشخصيته الثقافية وتعزيز روح المواطنة لديه، وإبراز النواحي المضيئة والمثل العليا في تاريخنا الماضي والمعاصر وعدم الانبهار الأعمى بالغرب، لنكون من دعاة حوار الحضارات لا صراع الحضارات.
د. إعداد رأس المال البشري الأكثر كفاءة عمودياً وأفقياً.
2. التطور التكنولوجي والعلمي:
بالتزامن مع العولمة تحدث تطورات كبيرة في مجال التكنولوجيا والعلوم التطبيقيـة كان لها الدور الكبير في إحداث التقارب والاندماج بين دول العالم، وهي في مختلف مجالات الحياة أولها في وسائل النقل والمواصلات. وإنه من البديهي القول بأن للمعرفة العلمية والتكنولوجية دوراً كبيراً في زيادة الإنتاج والإنتاجية وتحسينهما كماً ونوعاً وفي تحقيق مستويات مرتفعة من النمو الاقتصادي.
ومن أبرز الحقائق والأرقام في هذا المجال ما يلي(3):
أ. إن أكثر من (90 %) من تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين لم تكتشف بعد، وهي أضعاف ما تم اكتشافه في القرن العشرين.
ب. تزايد دور المعلومات والإبداع البشري في ثورة مجالات التكنولوجيا الحيوية والإلكترونيات الدقيقة، والمواد المختلفة، والموِّصلات الفائقة، والتكنولوجيا الرقمية …… الخ.
ج. تنامي استخدام الطاقة، والعودة للطاقة النووية النظيفة بشقيها الانشطاري والاندماجي، وظهور مشكلات جديدة مصاحبة لزيادة استخدام الطاقة وتزايد السكان وسرعة الانتقال.
د. تزايد الاهتمام في تصغير الدوائر الكهربائية المتكاملة (Microelectronics).
هـ. تزايد الاعتماد على الذكاء الصناعي، وأجهزة الحقيقة الافتراضية (Virtual Reality) بقصد وضع اختبارات وتصورات لا يمكن التنبؤ بها.
وبصورة عامة فإن العالم اليوم يشهد تطوراً تكنولوجياً هائلاً في مختلف المجالات والميادين العلمية وخاصة ما يسمى اليوم بالتكنولوجيا الجديدة أو الاتصالات والمعلوماتية والإلكترونات الدقيقة، والفوتونات الضوئية الدقيقة، وتكنولوجيا الفضاء والمواد الجديدة (مثل المواد فائقة التوصيل عند درجة حرارة عاليـة) وصناعة الأدوية والكيماويات الدقيقة، والتكنولوجية الرقمية، والهندسة الوراثية والتكنولوجية الحيوية.
وخلال ثورة تكنولوجيا المعلومات الحالية، ازداد اتساع الفجوة التكنولوجية والمعرفية بين الدول النامية والمتقدمة. فطبقاً لتقرير التنمية البشرية الصادر عن البنك الدولي للأعمار في عام 2003 حققت دول منظمة التهاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أكثر من (90%) من إنتاج تكنولوجيا المعلومات في عام 1995. واليوم الذي تكون فيه أجهزة الحاسب الآلي وشبكة المعلومات في الدول الغربية متاحة للجميع تقتصر فيه تكنولوجيا الاتصالات الأساسية على القلة الميسورة في معظم الدول النامية. فدول جنوب آسيا ودول جنوب الصحراء مثلاً تمتلك حوالي (105) خط تلفون فقط لكل 100 شخص، في مقابل حوالي (70) خط تلفون و (50) جهاز حاسب لكل (100) شخص في الولايات المتحدة.
وللبحث العلمي والتكنولوجي مردود كبير وعميق، ليس على المجتمع وحسب وإنما أيضاً على الأفراد والمؤسسات والشركات. وبمثل ما يعمل التقدم العلمي والتكنولوجي إلى الدفع باتجاه التغيير الاجتماعي والاقتصادي، فإنه يعمل أيضاً على زيادة الأهمية الاقتصادية للسلع المنتجـة ويساهم في نهوض الأمم. وعلى ما يبدو فإن التحدّي الذي سوف تواجهه الدول العربية، هو كيفية الاستفادة من العلم والتكنولوجيا بالرغم من الاختلاف والتعاون في استخدامهما بين الدول أو مجموعاتها، ومدى الاستفادة من إنجازاتهما في دفع مسيرة التقدم الاقتصادي والاجتماعي (4).
إن التنمية الصناعية العربية لا يمكن أن تصبح حقيقة واقعة أو ممكنة دون توفُّر سياسة تكنولوجية عربية قادرة على تطوير الروابط العلمية والبحثية بين نتاج المؤسسات العربية العلمية القائمة، وبين التطوّرات الاقتصادية العربية، فضلاً على تنمية هذه المؤسسات ودعمها للدخول في الأنشطة الحديثة التي باتت تحتل مكانة مهمة في تنافسية السلع في الأسواق العالمية (5).
لذا أصبح من الواجب على الدول العربية أن فجوة العلم والتكنولوجيا الكبيرة القائمة بينها وبين العالم الصناعي. ولابد من بناء تكتل عربي يعتمد على العلم والتكنولوجيا محوراً للتكامل وطريقاً للتقدم، والمشاركة في التطورات العالمية السريعة. لذلك يجب العمل على دعم الكفاءات العربية التقنية وتشجيعها على التعاون والإبداع، والاستفادة منها، ودمج القدرات العلمية بالاقتصادات العربية، بحيث تصبح التكنولوجيا إحدى المحاور الأساسية للتعاون العربي (6).
ثانياً: التحديات الاقتصادية الداخلية:
تضاف إلى التحديات الاقتصادية الخارجية التي تواجه التعليم في الوطن العربي أخرى داخلية قد تكون في الكثير من الأحيان أدهى خطراً وأمرَّ تأثيراً، ومن أبرز هذه التحديات ما يلي:
1. ضعف مخرجات التعليم:
من الملاحظ (وبدون إمعان النظر) فقر محتوى برامج التكوين التعليمي في الدول العربية وقصورها عن الحاجات المعرفية والعلمية، وبالتالي تخريج دفعات متلاحقة من أنصاف المتعلمين ممن لا يستفاد من طاقاتهم المتواضعة.
حيث يعّد ضعف مخرجات نظام التعليم العربي أحد أهم التحديات التي تهدد هذا النظام وتبعده عن دوره الحيوي في عملية البناء الاقتصادي والحضاري، والذي يتطلب من القائمين على هذا النظام مراجعته بشكل كامل وجذري من حيث فلسفته وأهدافه ومحتواه وكفاءته الداخلية والخارجية (7).
و يخطئ من يظن إن حل مشاكل التعليم في الدول العربية يكمن في فتح المزيد من فرص القبول بالمعاهد والجامعات. إن مشكلة التعليم الحقيقية هي تضخم عدد المتعلمين على حساب نوعيتهم مما يدفع بمعدلات البطالة نحو الزيادة، فالتنمية يهمها كفاءات المتعلمين المتنوعة وليس عددهم، ومدى انسجام تلك الكفاءات مع أولويات التنمية وحاجات المجتمع المتجددة.
وهناك مجموعة من الأسئلة المهمة التي يجب أن يسألها واضع السياسات التعليمية لنفسه، ليكون جوابها هو التقييم لمخرجات التعليم العالي في بلده، ومن هذه الأسئلة:
_ أين التميُّز والجودة والتخصص التي كونتها المعاهد والجامعات لدى خريجيها مقارنة بمثيلاتها في بعض الدول النامية الأخرى على أقل تقدير ؟
_ ما هي الصناعات و الخدمات التي نشأت وتطورت بسبب كفاءات ومهارات أولئك الخريجين ؟
_ ما هي نسبة المستخدم الفعلي من مجمل أعداد الخريجين ؟ وهل إن أعمالهم الحالية تتفق وتخصصاتهم العلمية؟
لقد أصبح التوسع في التعليم الجامعي في أغلب الأقطار العربية يتبع أخيراً طريقة التكاثر الانشطاري المستمـر (عدداً لا نوعاً)، فالكليّة تصبح كليّتين، والفصل الذي يتسع لثلاثين طالباً، يتحمل مائة أو أكثر، والأستاذ الذي يدرِّس (30) طالباً، يدرِّس (90)، والجامعة الواحدة انشطرت لجامعتين فأربع، والجديد كالقديم أساتذة ومناهجاً وطرق تدريس، مجرد نسخ مكررة باهتـة. وهناك الانتساب (برسوم ماليـة)، ودبلومات (برسوم مالية)، وتعليم خاص يمنح شهادات بكالوريوس في الطب والهندسة (برسوم مالية) بل الأدهى والأمَّر يمنح شهادات عليا تخصصية بدون متابعة أو رقابة من وزارات التعليم.
2. الخصخصة:
ليس التعليم الخاص إلا إحدى الوسائل المساندة للتعليم العام في تطوير المهارات والكفاءات إن اصطفت أهدافها مع أهداف وحاجات البلد الفعلية للكفاءات وأصبحت مخرجاتها منبعاً من منابع التنمية والتطور الحضاري.
أما إذا كان عامل الربح هو المؤشر الأوحد في إنشاء مؤسسة التعليم الخاص واستمرارها فإن هذا يعني فقدان المؤسسة لاستقلالها بل ولطابعها المميز كمؤسسة ذات طابع اجتماعي، وسيجعل من التعليم سلعة كباقي السلع تنطبق عليها قوانين الاستهلاك والفناء، وسيكون التعليم حكراً على أصحاب الثروة بدلاً من أن يكون مكافأة للشخص الكفء والذكي (غنياً كان أم فقيراً)، وبالتالي يزداد الغني غنى معنوياً ويزداد الفقير فقراً معنوياً ويتعمق الظلم الاجتماعي بالتعليم بدلاً من أن يكون هذا الأخير وسيلة من وسائل العدالة الاجتماعية.
فالتعليم الخاص يمكن أن يكون ذراعاً أيمناً للتعليم العام في تنفيذ سياسات التعليم التي تضعها الدولة كجزء من سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية العامة من خلال تحسين مخرجات التعليم. أي إن الخصخصة كما يعرِّفها الاقتصاديون يجب أن تسبقها سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وقانونية جديدة فاعلة لإعادة هندسة الهيكل الاقتصادي والاجتماعي الذي ينسجم والخصخصة من جهة، ولتنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي استحدثتها الخصخصة من جهة ثانية.
والتعليم هو أحد أهم القطاعات التي ينبغي الاهتمام بصيغة تخصيصها بشكل يتواءم مع حاجات البلد الحالية والمستقبليـة، وبعكس ذلك فإن التعليم الخاص سيصبح قناة لتسطيح التعليم، وزيادة البطالة، وخفض الإنتاجية، ورداءة المنتج المحلي، وبالتالي مفقساً للتخلف لا للتنمية.
فالمطلوب هو معاهد وجامعات خاصة تساهم في التنمية وفي رفع مستويات النمو الاقتصادي، وذلك لا يتم فقط من خلال ورقة تخرج، وإنما من خلال مساهمتها في إضافة معارف وخبرات عملية لطلابها والتي تؤهلهم بها لأن يكونوا بعد تخرجهم ضمن فئة المطلوبين للعمل وليس ضمن فئة طالبي العمل.
3. تفاقم مستويات البطالة:
تعد البطالة من أكبر التحديات التي تواجه أسواق العمل سواء العربية أو الأجنبية، حيث تتزايد معدلات البطالة في المنطقة العربيـة يوماً بعد آخر، وخاصة في ضوء ارتفاع معدلات النمو السكاني (أكثر من 3% في بعض الدول)، وزيادة عدد السكان في سن الشباب حيث إن (50%) من سكان المنطقة تقل أعمارهم عن 20 عاماً مما يترتب عليه دخول أعداد كبيرة جديدة سنوياً إلى سوق العمل. هذا في الوقت الذي بدأت فيه بعض الدول العربية تعاني من الركود الاقتصادي في ضوء الآثار المترتبة عن الحرب الأميركية على العراق والانخفاض المستمر في قيمة الدولار الأميركي وعودة الكثير من المغتربين لأوطانهم في إطار عمليات إحلال العمالة الوطنية محلها.
حيث تقدِّر منظمة العمل العربية ( 8 ) نسبة البطالة العربية بـ (25%) ومتوسط هذا المعدل في دول الخليج يتراوح بين (6%-17.5%)، بينما تجاوزت هذه النسبة (40%) في العراق وفلسطين.
وتبلغ الإضافة السنوية من قوة العمل إلى سوق العمل العربية حالياً (2.5) مليون ومن المنتظر أن تصل إلى (3) ملايين خلال السنوات القليلة القادمة مما يتطلب ضرورة توفير نفس العدد من فرص العمل سنوياً لاستيعاب الأعداد الجديدة والمحافظـة على المعدلات الحالية للبطالـة خاصة وإن نسبة كبيرة من طالبي العمل هم في عمر الشباب.
حيث تفيد الإحصاءات المتوفرة إن عدد السكـان في الدول العربيـة تجاوز (300) مليون نسمة في نهايـة عام 2003(9) (حوالي 60% منهم في سن العمـل أي ما بين 15 _ 59 سنة). حيث يبلغ حجم القوة العاملة حوالي (104) مليون، تشكِّل النساء منها(25%) وهي النسبة الأدنى عالمياً( * ).
ومن المفارقات إنه بينما يتجاوز عدد العـرب العاطلين عن العمـل حالياً (20) مليون عاطل (سيصل العدد في عام 2010 إلى أكثر من 32 مليون عاطل(10)) فإن هناك ما يزيد عن (16) مليون عامل أجنبي موزعين على مختلف الأقطار العربية وخاصة في دول الخليج العربي.
وتعد ظاهرة بطالة حملة الشهادات الجامعية نوعاً بارزاً من أنواع البطالة، وهذا يعني أن الدول العربية تخسر عشرات الملايين من الدولارات من أجل تعليم وتدريب مواطنيها ولكنها لا تستفيد من خبراتهم.
وتتصف العمالة العربية بانخفاض مستوى المهارة مقارنة مع مثيلاتها في الدول المتقدمة وحتى في العديد من الدول النامية الأخرى، وهذا يرجع إلى إن سياسات التعليم والتدريب في الدول العربية غير مؤهلة لخلق العمالة القادرة على التجديد والإبداع والارتفاع بمستوى الإنتاجية والجودة. حيث تُقدَّر إنتاجية العامل العربي في القطاع الصناعي بحوالي (800 دولار)(11) سنوياً في مقابل (60 ألف دولار) لمثيله في الدول الصناعية.
وهناك قواسم مشتركة أدت إلى ارتفاع نسب البطالة في الدول العربية، ومن أهمها ما يلي:
أ. ارتفاع نسب الأمية.
ب. تدني المستوى التعليمي.
ج. تخلف برامج التدريب.
د. عدم مواكبة السياسة التعليمية والتدريبية لمتطلبات سوق العمل المتجددة والمتغيرة.
هـ. فشل برامج التنمية في العناية بالجانب الاجتماعي بالقدر المناسب.
و. تراجع الأداء الاقتصادي.
ز. قصور القوانين المحفِّزة على الاستثمار في توليد فرص عمل بالقدر الكافي.
ح. تراجع دور الدولة في إيجاد فرص عمل وانسحابها التدريجي من ميدان الإنتاج، والاستغناء عن خدمات بعض العاملين في ظل برامج الخصخصة والإصلاح الاقتصادي التي تستجيب لمتطلبات صندوق النقد الدولي في هذا الخصوص.
ط. ارتفاع معدل نمو العمالة العربية مقابل انخفاض نمو الناتج القومي: ففي الوقت الذي يبلغ فيه نمو العمالة (2.5 %) سنوياً، فإن نمو الناتج القومي الإجمالي لا يسير بالوتيرة نفسها، بل يصل في بعض الدول العربية إلى الركود، وأحياناً يكون سالباً؛ فالدول العربية التي يتوافر فيها فائض في قوة العمل تعاني من الركود الاقتصادي وعدم توافر أموال الاستثمار، وازدياد البطالة والديون.
فمثلاً يصل معـدل النمـو السنوي لدخل الفرد العامل في مصر إلى (2.1%)، وفي المغرب (3.5%)، وفي الأردن (3.6%)، وفي سورية (5%)، بينما تكون معـدلات التضخم أكبر مما يؤدي إلى انخفاض الدخل الحقيقي للفرد(12). وهذا التراجع في مستوى معيشة العامل العربي له آثاره السلبية على إنتاجيته ودوره في الاقتصاد الوطني.
ي. استمرار تدفق العمالة الأجنبيـة الوافدة: ففي أعقاب الأزمة العراقية الكويتية (1990 – 1991) هيمنت العمالة الآسيوية على سوق العمالة في الخليج، وحلَّت محل العمالة العربية إثر عودة (800 ألف عامل) يمني من السعودية وعشرات الآلاف من الفلسطينيين من الكويت.
وقد ساهم هذا التدفق في تفشّي البطالة بين الشباب الخليجي في ظل اكتفاء القطاع الحكومي والتباين في الأجور وشروط العمل بين العمال الوافدين والوطنيين، وأدى إلى عدم النجاح الكامل لسياسات توطين الوظائف.
إن تدني مستويات المهارة المتوافرة لدى العمالة العربية مقارنة بمثيلاتها في مناطق العالم الأخرى (حتى النامية منها) يحتِّم ضرورة تطوير النظم التعليمية الحالية والبحث عن صيغ تعليمية غير تقليدية يأتي في مقدمتها التعليم غير النظامي، وتعليم الكبار، والتعليم عن بعد، والتعليم المفتوح، والتعليم المستمر، مع تطوير سياسات التدريب وبرامجه.
إن البطالة في الدول النامية (ومنها العربية) تعد انعكاساً لمشكلة أكبر هي مشكلة التخلف في حين إنها في الدول الصناعية ناتجة عن تناقضات التقدم الحالي للرأسمالية المعاصرة. لذا يصح القول إن الدول العربية يمكنها أن تواجه أزمة البطالة من خلال قهر التخلف وتحقيق التنمية الشاملة الراقية منطلقة من قنوات التعليم ووفقاً لحاجة السوق.
ولا يمكن فصل السياسات الخاصة بالتوظيف في المنطقة العربية عن السياسات الخاصة بجوانب التنمية ولاسيما التنميـة الاجتماعية، فسياسات التوظيف ترتبط ارتباطاً وثيقاً مع السياسات التعليمية، والسياسات المتعلقة بالتدريب، والسياسات المتعلقة بالحوافز والأجور، كما ترتبط أيضاً بالسياسات السكانية ولاسيما في مجال الخدمات الصحية والخصوبة.
وفيما يتعلق بمجال التعليم، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها الدول العربية في هذا المجال، فإن السياسات التعليمية ظلت ضعيفة الارتباط بمتطلبات سوق العمل، وأصبح هناك فائض في بعض التخصصات وعجز في تخصصات أخرى.
أما في مجال الحوافز الإنتاجية والأجور فقد كانت السياسات العربية تلِّح على ضرورة نمو إنتاجية العمل بمعدلات أعلى من معدلات زيادة الأجور، وضرورة ربط الأجور بالكفاءة وبحجم الإنجاز في العمل بدلاً من ربطه بالمؤهل العلمي أو الوظيفة، كما كانت السياسات تهدف إلى وضع نظام للحوافز من شأنه دفع العاملين إلى زيادة إنتاجية العمل وإلى انتقالهم إلى القطاعات الإنتاجيـة التي تشكو من نقص في الأيدي العاملة. إلا إن نجاح هذه السياسات كان محدوداً إلى درجة كبيرة، وظل المؤهل العلمي والمهنة هما المعياران الأساسيان لتحديد الأجور في القطاع العام.
ولمواجهة مشكلة البطالة التي تعاني منها البلدان العربية، لابد من التأكيد على تخطيط التعليم وفقاً لاحتياجات سوق العمل. إن نظام التعليم في المنطقة العربية في تركيزه على الكم بدلاً من الكيف قد ابتعد عن الدور المرجو منه في تحقيق أهداف التنمية العربية، كما إن الإنتاجية العلمية والبحثية للمؤسسات العلمية العربية أقل بكثير مما يمكن أن تقدمه بالقياس إلى الطاقات الكبيرة من الكفاءات والمواهب التي تملكها، بحيث أصبح ارتباط النشاطات التعليمية البحثية العربية ببرامج التنمية والإنتاج ضعيفاً إجمالاً إن لم يكن هامشياً.
ومن هنا فإن الملجأ هو التخطيط التعليمي السليم الذي من شأنه ليس تخفيض حدة البطالة بين خريجي الجامعات والمعاهد العليا فحسب بل زيادة فرص العمل أمام الأيدي العاملة الجديدة أيضاً، كما يؤدي في الوقت نفسه إلى ترشيد النفقات الحكومية على كثير من التخصصات التعليمية غير المطلوبة، وهو ما يعني ضرورة إجراء مراجعة شاملة ودراسة متكاملة لسياسات التعليم والتدريب القائمة حالياً في الدول العربية على ضوء الحاجة الفعلية لكل تخصص.
ثالثاً: المقترحات:
نكون أو لا نكون ؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه علينا أبناءنا، وينبغي الإجابة عليه بالفعل لا بالتمني.
لم تعد المؤسسة التعليمية العربية بصورتها التقليدية قادرة على مواجهة التحديات الجديدة خارجية كانت أم داخلية والتي تعصف بمستقبل أبناءنا وهويتهم العربية. ومن هنا بالإمكان تفعيل هذه المؤسسات ودورها الحيوي من زوايا ثلاث كما يلي:
1. أهداف التعليم ومبادئه:
إن الإحاطة بالمعرفة وبتغيراتها المستمرة أمراً غير وارد وغير ممكن خصوصاً ونحن نعيش زمن الابتكارات التكنولوجية الرقمية التي تتسارع وتيرتها بشكل يفوق الخيال والتصوّر، ولكن من الممكن تهيئة الأفراد من خلال التعليم لمتابعة حركتها وتطوراتها والقدرة على الوصول إليها والاختيار منها والتحقق من دقتها. وبالتالي يتوجب على المؤسسات التعليمية العربية إعادة النظر في سياساتها وأهدافها لصياغة جديدة للمكونات والقدرات والمهارات المطلوب الحصول عليها من خلال التعليم. وبالإمكان التأكيد على مجموعة من مبادئ التعليم وأهدافه المرغوبة في الدول العربية في الوقت الحاضر بما يلي(13):
أ. العمل على تنمية شخصية المتعلم من كافة جوانبها العقلية والوجدانية والروحية والنفسية في إطار الثقافة الإسلامية والعربية الصحيحة، حتى تكون قادرة على مواجهة كافة التحديات والأخطار المحيطة بها.
ب. ضرورة تدريـب المتعلم على كيفية التعاون والتفاعل مع الآخرين، وتمكنه من فهم الحضارات العالمية، والحوار الهادف معها.
ج. التركيز على ذاتية التعلُّم، وتدريب الطلاب على كيفية البحث عن المعرفة والتأكد من مصادرها المتعددة.
د. التركيز على تنمية المهارات كونها تشكِّل المحور الرئيسي لنوعية التعليم وجدواه، والابتعاد عن أساليب التلقين والحفظ والأساليب القسرية التي تقتل القدرات النقدية والإبداعية لدى المتعلِّم وتكرّس لديه ثقافة الذاكرة.
هـ. إبراز دور النشاطات التدريبية والتجارب بما يخدم الطلاب بربط معارفهم ومعلوماتهم بالحياة وبالبيئة المحلية.
2. مناهج التعليم:
في سياق التدرُّج المتصاعد في مستويات مناهج التعليم حسب مراحل التعليم، بحيث تخرج جميعها في منظومة متكاملة، لا ازدواج فيها، ولا تعارض بينها، ولا تكتفي بالجوانب النظرية فقط بل تكون أهدافاً قابلة للتطبيق ومرتبطة بالواقع ومتغيراته ومستجداته المختلفة، يجب التأكيد على ما يلي:
أ. ضرورة تكثيف محتويات المناهج على العلوم المرتبطة بالعصر ذات البُعد المستقبلي، والقائمة على التجريب، منطلقة من الإمكانيات العربية (البشرية والمادية) المتاحة حاضراً ومستقبلاً.
ب. التركيز في محتويات المناهج على عنصرين أساسيين: الأول هو الثقافة العربية الإسلامية بملامحها السمحة. والثاني هو الانفتاح على الثقافة العالمية بشكل يسمح للمتعلم معرفة كل ما هو جديد على الساحة العلمية والثقافية العالمية، وبما لا يهدد ثقافته وشخصيته المستقلة.
ج. الاهتمام بمقررات اللغة العربية للارتقاء بمستوى تعليمها، بوصفها اللغة الأم والأداة الهامة للتواصل الاجتماعي والثقافي والتاريخي بين الشعب العربي.
د. إعطاء أهمية لمقررات اللغة الإنجليزية، بوصفها لغة عالمية وأداة هامة للاتصال وقناة لا بديل عنها للتواصل بين دول العالم.
هـ. إبراز دور النشاطات التدريبية والتجارب في المناهج بما يخدم الطلاب بربط معارفهم ومعلوماتهم بالحياة وبالبيئة المحلية.
و. أن يكون لعلوم الحاسب الآلي مكانة متميزة ضمن مفردات المناهج التعليمية، ولكافة المراحل سواء كمادة علمية، أو كوسيلة تعليمية أساسية.
ز. ينبغي إقامة أجهزة خارج النظام التعليمي (حكومية كانت أم أهلية أم مشتركة) تتمتع بالحيادية، وتكون لها صفة تقويم النظام التعليمي بالكامل (طلاب، مناهج، امتحانات، مؤسسات، كتب، ومعلمين...الخ.
3. المعلمون:
مما لا شك فيه أن المعلم العربي يحتاج إلى آلية إعداد جديدة لمواجهة التغيرات المستقبلية المحتملة في المنظور العالمي والمجتمعي والمعرفي والتكنولوجي، ومن ثم فإن هذه التغيرات سوف تحدد دور وطبيعة معلم المستقبل في العملية التعليمية. وعليه فإن هناك مجموعة من الأُطر المرنة التي يمكن أن تتم في ضوءها عمليات إعداد هذا المعلم، ومواجهة أي تغيرات مستجدة، وهي:
أ. ضرورة توافر جملة معايير وشروط علمية وتربوية وصحية وثقافية ملائمة يتم بموجبها اختيار المعلم الجديد سواء للالتحاق بمؤسسات إعداد المعلمين أو للالتحاق بالدراسات العليا.
ب. إعداد معلم المستقبل في ظل مفهوم التعليم المستمر والتطوير المهني لمواجهة التغيرات المستقبلية مجتمعية كانت أم تكنولوجية.
ج. ضرورة الاهتمام بالوضع المادي والمعنوي لمعلم المستقبل، حيث أن تحسين الظروف المادية والمعنوية للمعلم تساهم في نجاح العملية التربوية والتعليمية بشكل كبير.
وخلاصة القول إن جوهر مفهوم التعليم المنشود هو ثبات معارف الإنسان الذي يحتاجها في زمانه ومكانه وليس في تراكم المعلومات والبيانات لديه، وتكمن أهمية التعليم في الربط بين معرفة الإنسان وبين واقعه واحتياجاته، وهذا بدوره جوهر ماهية التنمية الحقيقية القادرة على النهوض بمجتمعها ودفعه إلى التأثير الفاعل استجابة لواقعه وظروفه وحاجاته.
الهوامــش
1. السيد عبد العزيز البهواش_ "مخاطر العولمة على الهوية الثقافية"، نهضة مصر، 1999.
2. برهان غليون، وسمير أمين_ "ثقافة العولمـة، وعولمـة الثقافة"، دمشق، دار الفكر العربي، 2000، ص 29.
3. د. خالد أحمد بو قحوص_ "بعض الاتجاهات العالمية للتعليم العالي في ظل العولمة"_ مجلة التربية_ العدد 8_ البحرين_ أبريل 2003.
4. د. الياس غنطوس، "التكنولوجيا والتحديث في اقتصاد عربي متطور"، مجلة العمران العربي، العدد 63، مايو_ يونيو 2003، ص 2.
5. المصدر السابق، ص 2.
6. نفس المصدر، ص 2.
7. محمود المنير، "العولمة وعالم بلا هوية"، دار الحكمة، المنصورة، 2000، ص _ ص (156 _ 159).
8. الرياض الاقتصادي، مؤسسة اليمامة الصحفية، الأحد 26 أكتوبر، العدد 12910، السنة 39.
9. عبد الفتاح الصادقي، جريدة العلم، الرباط، الاثنين، 12 يناير 2004.
(*). ربما يرجع انخفاض نسبة النساء من مجمل القوة العاملة في الوطن العربي إلى عدم احتساب نسبة مشاركة المرأة العربية في عملية الإنتاج في قطاعات غير منتظمة مثل الزراعة والصناعات التقليدية والمنزلية لعدم توفر الإحصاءات الدقيقة في هذا المجال.
10. "32 مليون عربي عاطل عن العمل في 2010"، جريدة الرياض، 26 / 7 / 2003.
11. الرياض الاقتصادي، مؤسسة اليمامة الصحفية، مصدر سابق.
12. محمد شعبان_ "العاطلون العرب قنابل موقوتة"، 10/4/ 2001
13. مجلة المعرفة، "التربويون العرب يكتبون وصيتهم"، العدد (64) ، أكتوبر 2000، ص 52.
1 التعليقات :
موضوع ممتاز جدا شكرا لكم
إرسال تعليق