قبل بضع سنوات، قرر روبرت برونر وشون كار، وهما أستاذان في كلية داردن لإدارة الأعمال في جامعة فيرجينيا، قررا تأليف كتاب موسع حول انهيار السوق المالية الذي أصاب "وول ستريت" في عام 1907.
في الأوقات الطبيعية الهادئة ربما لن يلفت هذا العمل إلا أنظار عدد محدود من الناس. وذلك ليس بمستغرب، لأن انهيار عام 1907 لم يحظ أبداً بالشهرة التي حظي بها انهيار عام 1929.
ولكن بسبب التوقيت الممتاز، وضربة من الحظ بالمصادفة، فإن كتابهما سينشر هذا الخريف، ويجد المؤلفان على نحو مفاجئ أن نتائج تحليلاتهما تخضع لطلب هائل من العالم المالي. ويعترف برونر قائلاً: "لم نكن نتوقع أن هناك أزمة ستنطلق هذا الصيف. ولكن دراساتنا علمتنا أن محركات الأزمة موجودة دائماً، وعليه ارتأينا أن العبر المستفادة من انهيار عام 1907 ستكون وثيقة الصلة إلى حد هائل بما يهم المستثمرين وكبار الإداريين التنفيذيين والأجهزة الرقابية".
هذا الموقف النفسي يبدو أنه مشترك بين "وول ستريت" والحي المالي في لندن. ذلك أنه في الوقت الذي يشهد المستثمرون والممولون ارتداداً من صدمة هذا الصيف التي شهدت تقلبات عنيفة في السوق، وفي الوقت أدت فيه الأزمة في سوق الإقراض لضعيفي الملاءة إلى إحداث هزات في عالم الأسهم، إلا أن كثيراً من المراقبين يلجأون الآن لكتب التاريخ بحماس غير معهود، أو حتى بنشاط مدفوع باليأس، لتقييم الكيفية التي ستتمخض عنها هذه الأزمة. ويقول أحد كبار المديرين لأحد صناديق التحوط: "الجميع يتمتم الآن بالأرقام 1987، أو 1998، أو 1929. وأنا لا أعرف الكثير عن انهيار عام 1907، ولكن لعله يجدر بي أن أفعل".
من بعض وجهات النظر، هذا الانبهار المفاجئ بالماضي يعد نوعاً من التحول الكامل. وهذا ليس بالأمر المستغرب، فقد أمضى القطاع المالي معظم هذا العقد وهو يعمل من خلال نظرة قصيرة الأجل كانت مركزة على المستقبل وليس على الماضي. بل إنه حتى هذا الربيع، كان من النادر أن تجد أي متداول مالي أمضى وقتاً كثيراً وهو يتأمل في أحداث الماضي التي يزيد عمرها على عقد من الزمن، أو ينظر إلى ما وراء نقاط البيانات التي توجد في العادة في منصات التداول.
هذا إلى حد ما دلالة على الحقيقة التي تقول إن المتداولين الماليين هم في الغالب أصغر سناً من أن يتذكروا كثيراً من الدورات الاقتصادية. ولكن الأهم من ذلك أن كثيراً من الصكوك التي كانت في قلب عاصفة السوق الأخيرة لم تبرز إلى النور ويعلو شأنها إلا في هذا العقد. وبالتالي فإن البيانات التاريخية الذي يغذيها المصرفيون في نماذج كمبيوتراتهم بهدف تقييم تقلبات السوق، أو بهدف قياس مستوياتهم في تناول المخاطر، هذه البيانات تستند في الغالب إلى سجلات لا يبلغ عمرها إلا بضع سنوات فقط. وهذا يحمل في طياته إمكانية تشويه الطريقة التي تعمل بها نماذج الكمبيوتر المذكورة، على اعتبار أنها تعني أن المصرفيين يفترضون من الناحية العملية أن المستقبل سيكون شبيهاً بالماضي، ولكنه سيستند بتمامه إلى خبرة حديثة العهد تماماً. ويقول هارالد مالمجرين، وهو اقتصادي يعمل في واشنطون: "المذهل في الموضوع أن نماذج المخاطر المطبقة حالياً في بعض الأسواق لا تعكس الخبرة المكتسبة في خريف عام 1998، والتي لم يمض عليها إلا سنوات قليلة فقط.
لكن السبب الآخر في نقص الاهتمام حديث العهد في التاريخ هو أن كثيراً من المصرفيين كانوا يعتقدون، على الأقل حتى عهد قريب، أن انفجار الابتكارات التي شهدتها السوق المالية في هذا العقد أعادت كتابة قواعد التمويل. ذلك أنه في الوقت التي خلق فيه الممولون المنتجات التي توزع مخاطر الائتمان عبر الأسواق الرأسمالية، فقد عمل هذا على تغيير الطريقة التي يعمل بها النظام المالي. وهذا بدوره ربما عمل على تغيير الطريقة التي تعمل بها الدورة الائتمانية، أو هذا على الأقل ما كان يعتقده بعض المتفائلين حتى عهد قريب جداً.
لكن تقلبات السوق لهذا الصيف تعمل الآن على تفنيد كثير من هذه الافتراضات اللطيفة المريحة. ونتيجة لذلك فإن عدم الاكتراث بالماضي يُستبدَل الآن بظمأ عنيف للمعرفة التاريخية، في الوقت الذي يعمل فيه المصرفيون على إعادة تعريف أنفسهم بالحقيقة القاسية وهي أن كل فقاعة تقريباً يصاحبها اعتقاد بأن الابتكار يغير القواعد، وهو اعتقاد يثبت في العادة أنه فاسد. يقول جاك مالفي، وهو محلل لدى بنك بيهمان براذرز: "إن سوق الائتمان المحدثة الجديدة هذه لا تختلف اختلافاً كبيراً في الواقع عن الأسواق الكلاسيكية السابقة عليها". ويضيف: "صحيح أن العوامل المحفزة تختلف من سوق لأخرى، ولكن ردود فعل السوق يبدو عليها أنها شبيهة بالأزمات السابقة. . . وبالنسبة لوجهة نظرنا فإننا نرى أن التاريخ الاقتصادي وتاريخ الأسواق الرأسمالية على المدى الطويل هو أفضل معلم وأفضل نموذج لفهم الحاضر".
لكن المشكلة الكبيرة التي تواجه الرجال الذين هم مثل مالفي هي أن "التاريخ طويل الأمد" يقدم مجموعة مذهلة فعلاً من النماذج التي يمكن أن يطلع عليها ويستفيد منها الدارس. والواقع أن بنك ليهمان براذرز نفسه يقدر أنه كانت هناك أكثر من 60 حالة انهيار للأسواق منذ عام 1622. ونتيجة لذلك يختلف أهل العلم اختلافاً كثيراً حول أي حالات الانهيار التي يمكن أن تعد "أفضل" حالة للمقارنة بالنسبة للأحداث المعاصرة، ويعتمد ذلك على ما إذا كانوا متفائلين حول آفاق الاقتصاد الكلي أم غير متفائلين.
على سبيل المثال، هناك حالة مماثلة تثير كثيراً من النقاش، وهي انهيار فقاعة شركات الإنترنت في بداية هذا العقد. وهذه الفقاعة تبدو مشابهة لأحداث هذا العام لأن الانهيار جاء بعد موجة قوية من الحماسة الكبيرة لسوق الأسهم من النوع الذي استبق الظروف الحديثة في أسواق الائتمان. وعلى الأخص، في أواخر التسعينيات كانت مستويات الديون ترتفع في النظام في الوقت الذي تخلى فيه مستثمرو الأسهم عن الحذر وألقوه في مهب الريح وسط اعتقاد واسع النطاق بأن الابتكار عمل على تغيير قواعد الاستثمار. (وبصورة خاصة، في عام 1999، كان ينظر إلى صعود الإنترنت على أنه غيّر دورات الأعمال).
لكن حين عانى مستثمرو الأسهم فقداناً مفاجئاً في الثقة في أسهم شركات الإنترنت التي كانت أسعارها فوق قيمتها الحقيقية، تدافع المستثمرون للتخلص من الديون بقوة، في موجة قوية من تقليص نسبة التسهيلات اللازمة للدخول في الاستثمار تشبه الموجة التي نشهدها هذا الصيف. يقول بنك كريدي سويس، في مذكرة أرسلت حديثاً إلى العملاء: "إن تقليص نسبة التسهيلات اللازمة للدخول في الاستثمار في نظام تنتشر فيه فوق الحد التسهيلات الكبيرة للاستثمار هو دائماً أمر يتسم بالمخاطرة. وكانت آخر مرة حدث فيها ذلك على هذا النطاق الواسع هو انفجار فقاعة الإنترنت، حين كانت التسهيلات في قطاع الشركات هي المتهم الرئيسي، ولكن كان المستثمرون في الأسهم يديرون محافظ استثمارية أكثر خطراً بكثير مما يفعلون في العادة".
قبل سبع سنين أشعلت هذه الأحداث مخاوف من أن بوادر كساد اقتصادي خطير كانت تتجمع في الأفق، وهو كساد تم تجنبه إلى حد ما بعد أن خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة. وعمل تقليص نسبة التسهيلات في نهاية الأمر على انقباض ائتمان الشركات في سوق الأوراق التجارية، أو القطاع الذي تقوم فيه الشركات باقتراض الأموال على المدى القصير. ويقول جيفري روزنبيرج، وهو محلل لدى مصرف بانك أوف أمريكا: "خلال عام 2002، أغلقت أسواق الأوراق التجارية للشركات، مما أرغم جهات تقديم السيولة الاحتياطية لملء الفراغ، وأدى ذلك إلى زيادات كبيرة في المخاطر الائتمانية بالنسبة للنظام المصرفي". وذكر أن ظاهرة مشابهة انفجرت مرة أخرى هذا الشهر في أجزاء من سوق الأوراق التجارية.
لكن، كما يلاحظ روزنبيرج كذلك، فإن من الفروق اللافتة للنظر بين أحداث هذا الصيف وبين عام 2002 هو أن الشركات المالية، وليس شركات التصنيع على سبيل المثال، هي التي تواجه انقباض التمويل. وهذا يبرز كذلك فرقاً آخر في مثل أهمية الفرق الأول، وهو أنه في حين أنه في عام 2000 كانت قائمة الشركات المثقلة بالديون تشتمل على عدد من الشركات المعروفة في الاقتصاد، إلا أن اللاعبين الماليين هذه المرة، مثل صناديق التحوط أو البنوك، هم الجهات التي تتعامل بقدر هائل من التسهيلات الاستثمارية.
ربما يساعد ذلك في تفسير السبب الذي يقف وراء الاضطراب الحالي في أسواق الائتمان، وليس في عالم الأسهم (كما كانت عليه الحال في عام 2000). ولكن ذلك يعني ضمناً أن الاضطراب الحالي في الأسواق سيكون أثره السلبي على "الاقتصاد الحقيقي" أقل مما كانت عليه الحال قبل سبع سنوات، على اعتبار أن هذا الاضطراب لم يؤد إلى تضرر الشركات الكبيرة في الاقتصاد الرئيسي، حتى الآن.
وبالتالي، يرتاب بعض المحللين ويرون أن الأنموذج الأفضل بكثير لتحليل أحداث اليوم يمكن أن يكون على مسافة أبعد من مجرد سبع سنوات، ويقصدون بذلك أحداث العامين 1997 و1998، حين أشعلت عاصفة في الأسواق المالية العالمية عجزاً غير متوقع عن التسديد في الدين الروسي، أدى في نهاية الأمر إلى الانهيار شبه الكامل لصندوق التحوط "لونج تيرم كابيتال مانجمنت". ومن الأسباب التي يعتبر لأجلها هذا التوازي بين الحالتين مغرياً لبعض المتداولين هو أن تحركات السوق في هذا الصيف كانت عنيفة جداً بحيث أنها توحي بأن عدداً من المؤسسات الكبيرة (التي لا تعرف أسماؤها على وجه التحديد) تعاني من ضيق شديد إلى الحد الذي يجعلها تبيع محافظها بأسعار بخسة. فإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يردد أصداء النمط الذي حدث في عام 1998، حين حاول الصندوق "لونج تيرم" والأطراف المقابلة له تصفية المحافظ بسرعة، مما أدى على ما يبدو إلى تقلبات غريبة في الأسعار وانهيار الثقة بين البنوك.
لكن هناك تشابها أساسياً آخر، وهو أن اضطرابات عام 1998 تركزت أيضاً على العالم المالي، وليس على الشركات الرئيسية. ونتيجة لذلك فإن مشكلات "لونج تيرم" لم تشعل إلا عدداً قليلاً من الآثار الضارة المباشرة على الاقتصاد "الحقيقي".
دفع هذا التوازي ببعض المراقبين إلى الاستنتاج كذلك أن الفوضى التي شهدتها الأسواق هذا الشهر لن تلحق أضرار ملموسة تذكر بالاقتصاد. ولكن المشكلة هي أن الخسائر في عالم القروض السكنية لضعيفي الملاءة يبدو الآن أنها تضر بقطاع أوسع كثير من المستثمرين عما كانت عليه الحال في عام 1998. ويعود بعض السبب في ذلك إلى أن هذه الخسائر موزعة بصورة واسعة نتيجة للابتكارات المالية. من جانب آخر فإن احتمالات الألم ربما تكون أبعد من ذلك، ذلك أنه في حين أن واقعة "لونج تيرم" هددت بخلق خسارة مقدارها ثلاثة مليارات دولار للمستثمرين والبنوك المتعاملين مع صندوق التحوط، إلا أن التقديرات لحجم الخسائر من سوق القروض السكنية لضعيفي الملاءة تراوح بين 50 مليار و200 مليار دولار. ويقول جان لوييز من بنك جيه بي مورجان: "يظل الإجماع متفائلاً حول آفاق النمو العالمي ويظل مقتنعاً بأننا نشهد تكراراً لأزمة صندوق لونج تيرم. ولكننا ندرك أن التاريخ لا يعيد نفسه أبداً على نحو تام".
ومع ذلك فإن هذا لا يوقف بعض المحللين من الغوص إلى مسافات أبعد في التاريخ بحثاً عن مواعظ وعبر أفضل. وحتى الآن فإن قليلاً من أهل الخبرة حاولوا أن يوحوا لنا بأن الأحداث الحالية هي تكرار للانهيار الدرامي الذي يعرفه الجميع، وهو انهيار عام 1929. ذلك أنه يبدو حتى الآن أن الاقتصاد العالمي لا يزال يتمتع بصحة جيدة رغم كل ما حدث وأن نطاق تقلبات السوق لا يزال يبدو صغيراً للغاية إذا ما قورن بأحداث عام 1929 أو بالانهيارات الأخرى. (والواقع أنه لولا الحقيقة التي تقول إن مستويات تقلب السوق كانت منخفضة على نحو غير عادي في هذا العقد، فإن بعض المراقبين ريما يترددون أصلاً في استخدام كلمة اضطراب).
لكن بعض المحللين يرون أوجه تناظر مع انهيار آخر يعرفه الجميع كذلك، وهو انهيار عام 1987، حين خسرت أسواق الأسهم 22 في المائة من قيمتها خلال يوم واحد وانهارت 60 شركة للوساطة المالية. وتدور الصلة أساساً حول نماذج التداول. ففي الفترة المؤدية إلى انهيار عام 1987 كان "وول ستريت" قد تبنى استخدام ما يعرف بعبارة نماذج التداول في المحافظ، التي عملت بصورة فعلية على تعميق الوضع السيئ لحركة الهبوط حين أخذت الأسهم في الانهيار. وبالمثل، يخشى بعض المراقبين أن الاستخدام الواسع لجيل جديد من نماذج التداول في عام 2007، المعروفة بالاستراتيجيات الكمية عمل كذلك على تضخيم تقلبات السوق لهذا الصيف، ومكنت صدمة في قطاع ضيق في أسواق الائتمان من الإضرار بعدد هائل من فئات الموجودات.
لكن كما يبين برونر وكار في كتابهما ذي التوقيت الممتاز، فإن التاريخ يبين أن العدوى سابقة على الكمبيوترات. فالحادث الذي أشعل فتيل انهيار عام 1907 في نيويورك كان انتحار تشارلز بارني، الرئيس المخلوع لشركة نيكر بوكر تراست كومباني، الذي حاول محاصرة الأسهم في شركة يونايتد كوبر. ورغم أن موته كان يبدو حادثاً معزولاً، أو مفاجأة "تم احتواؤها" كما نقول اليوم، إلا أنه حين انتشرت مضامين الحادث فإنها أشعلت سلسلة متصلة من التفاعلات خلال العالم البنكي، مدفوعة بالحقيقة التي تقول إن مستوى التسهيلات الاستثمارية كان عالياً وكان الاقتصاد في وضع ضعيف بسبب زلزال وقع قبل ذلك بفترة قريبة.
يقول برونر: "الأزمات تشبه الأعاصير. كل إعصار له سماته الفريدة، ومع ذلك فإننا نعرف ما يكفي عن هذه الأعاصير ما يمكننا أن نقوم بتعميمات بشأنها، وإن تعميمنا الكبير من عام 1907 هو أن التفسيرات تأتي من تقارب الأسباب، ومعظمها تكون دائماً موجودة في الاقتصاد العالمي. لكن حين تصطف هذه الأسباب في الصف المناسب، فإن النتيجة تكون وقوع أزمة مالية".
ربما لا يقدم ذلك مساعدة محددة للمستثمرين الذين يريدون إرشادات واضحة حول ما إذا كانت الاضطرابات الحالية مجرد عاصفة عابرة أم غير ذلك. ولكن في الوقت الذي يقلب فيه علماء الاقتصاد كتب التاريخ، فإن هناك أمراً واضحاً كل الوضوح وهو أن اضطرابات هذا الصيف لن تكون الأخيرة. بل على العكس من ذلك، كما يذكر مالفي، فإن العبرة المستفادة من كتب التاريخ هي أن هذه الفصول تحدث بانتظام مذهل، وفي العادة بمعدل مرة كل عقد، وذلك في كل مرة تصطدم فيها التسهيلات الاستثمارية مع الابتكار وغرور المستثمرين. ويقول مالفي: "تتحرك الأسواق الآن بين ثلاثة أطوار، وهي التشاؤم ثم الشعور بالتهيب ثم التهاون والنشوة. ومن الآن أقول لكم احذروا حدوث انقباض في أسواق الائتمان في عام 2017. ولكن الأمر المحزن هو أنه حين يحل ذلك التاريخ فإن الأسواق ستتصرف مرة أخرى وكأن اضطرابات عام 2007 لم تقع قط."
في الأوقات الطبيعية الهادئة ربما لن يلفت هذا العمل إلا أنظار عدد محدود من الناس. وذلك ليس بمستغرب، لأن انهيار عام 1907 لم يحظ أبداً بالشهرة التي حظي بها انهيار عام 1929.
ولكن بسبب التوقيت الممتاز، وضربة من الحظ بالمصادفة، فإن كتابهما سينشر هذا الخريف، ويجد المؤلفان على نحو مفاجئ أن نتائج تحليلاتهما تخضع لطلب هائل من العالم المالي. ويعترف برونر قائلاً: "لم نكن نتوقع أن هناك أزمة ستنطلق هذا الصيف. ولكن دراساتنا علمتنا أن محركات الأزمة موجودة دائماً، وعليه ارتأينا أن العبر المستفادة من انهيار عام 1907 ستكون وثيقة الصلة إلى حد هائل بما يهم المستثمرين وكبار الإداريين التنفيذيين والأجهزة الرقابية".
هذا الموقف النفسي يبدو أنه مشترك بين "وول ستريت" والحي المالي في لندن. ذلك أنه في الوقت الذي يشهد المستثمرون والممولون ارتداداً من صدمة هذا الصيف التي شهدت تقلبات عنيفة في السوق، وفي الوقت أدت فيه الأزمة في سوق الإقراض لضعيفي الملاءة إلى إحداث هزات في عالم الأسهم، إلا أن كثيراً من المراقبين يلجأون الآن لكتب التاريخ بحماس غير معهود، أو حتى بنشاط مدفوع باليأس، لتقييم الكيفية التي ستتمخض عنها هذه الأزمة. ويقول أحد كبار المديرين لأحد صناديق التحوط: "الجميع يتمتم الآن بالأرقام 1987، أو 1998، أو 1929. وأنا لا أعرف الكثير عن انهيار عام 1907، ولكن لعله يجدر بي أن أفعل".
من بعض وجهات النظر، هذا الانبهار المفاجئ بالماضي يعد نوعاً من التحول الكامل. وهذا ليس بالأمر المستغرب، فقد أمضى القطاع المالي معظم هذا العقد وهو يعمل من خلال نظرة قصيرة الأجل كانت مركزة على المستقبل وليس على الماضي. بل إنه حتى هذا الربيع، كان من النادر أن تجد أي متداول مالي أمضى وقتاً كثيراً وهو يتأمل في أحداث الماضي التي يزيد عمرها على عقد من الزمن، أو ينظر إلى ما وراء نقاط البيانات التي توجد في العادة في منصات التداول.
هذا إلى حد ما دلالة على الحقيقة التي تقول إن المتداولين الماليين هم في الغالب أصغر سناً من أن يتذكروا كثيراً من الدورات الاقتصادية. ولكن الأهم من ذلك أن كثيراً من الصكوك التي كانت في قلب عاصفة السوق الأخيرة لم تبرز إلى النور ويعلو شأنها إلا في هذا العقد. وبالتالي فإن البيانات التاريخية الذي يغذيها المصرفيون في نماذج كمبيوتراتهم بهدف تقييم تقلبات السوق، أو بهدف قياس مستوياتهم في تناول المخاطر، هذه البيانات تستند في الغالب إلى سجلات لا يبلغ عمرها إلا بضع سنوات فقط. وهذا يحمل في طياته إمكانية تشويه الطريقة التي تعمل بها نماذج الكمبيوتر المذكورة، على اعتبار أنها تعني أن المصرفيين يفترضون من الناحية العملية أن المستقبل سيكون شبيهاً بالماضي، ولكنه سيستند بتمامه إلى خبرة حديثة العهد تماماً. ويقول هارالد مالمجرين، وهو اقتصادي يعمل في واشنطون: "المذهل في الموضوع أن نماذج المخاطر المطبقة حالياً في بعض الأسواق لا تعكس الخبرة المكتسبة في خريف عام 1998، والتي لم يمض عليها إلا سنوات قليلة فقط.
لكن السبب الآخر في نقص الاهتمام حديث العهد في التاريخ هو أن كثيراً من المصرفيين كانوا يعتقدون، على الأقل حتى عهد قريب، أن انفجار الابتكارات التي شهدتها السوق المالية في هذا العقد أعادت كتابة قواعد التمويل. ذلك أنه في الوقت التي خلق فيه الممولون المنتجات التي توزع مخاطر الائتمان عبر الأسواق الرأسمالية، فقد عمل هذا على تغيير الطريقة التي يعمل بها النظام المالي. وهذا بدوره ربما عمل على تغيير الطريقة التي تعمل بها الدورة الائتمانية، أو هذا على الأقل ما كان يعتقده بعض المتفائلين حتى عهد قريب جداً.
لكن تقلبات السوق لهذا الصيف تعمل الآن على تفنيد كثير من هذه الافتراضات اللطيفة المريحة. ونتيجة لذلك فإن عدم الاكتراث بالماضي يُستبدَل الآن بظمأ عنيف للمعرفة التاريخية، في الوقت الذي يعمل فيه المصرفيون على إعادة تعريف أنفسهم بالحقيقة القاسية وهي أن كل فقاعة تقريباً يصاحبها اعتقاد بأن الابتكار يغير القواعد، وهو اعتقاد يثبت في العادة أنه فاسد. يقول جاك مالفي، وهو محلل لدى بنك بيهمان براذرز: "إن سوق الائتمان المحدثة الجديدة هذه لا تختلف اختلافاً كبيراً في الواقع عن الأسواق الكلاسيكية السابقة عليها". ويضيف: "صحيح أن العوامل المحفزة تختلف من سوق لأخرى، ولكن ردود فعل السوق يبدو عليها أنها شبيهة بالأزمات السابقة. . . وبالنسبة لوجهة نظرنا فإننا نرى أن التاريخ الاقتصادي وتاريخ الأسواق الرأسمالية على المدى الطويل هو أفضل معلم وأفضل نموذج لفهم الحاضر".
لكن المشكلة الكبيرة التي تواجه الرجال الذين هم مثل مالفي هي أن "التاريخ طويل الأمد" يقدم مجموعة مذهلة فعلاً من النماذج التي يمكن أن يطلع عليها ويستفيد منها الدارس. والواقع أن بنك ليهمان براذرز نفسه يقدر أنه كانت هناك أكثر من 60 حالة انهيار للأسواق منذ عام 1622. ونتيجة لذلك يختلف أهل العلم اختلافاً كثيراً حول أي حالات الانهيار التي يمكن أن تعد "أفضل" حالة للمقارنة بالنسبة للأحداث المعاصرة، ويعتمد ذلك على ما إذا كانوا متفائلين حول آفاق الاقتصاد الكلي أم غير متفائلين.
على سبيل المثال، هناك حالة مماثلة تثير كثيراً من النقاش، وهي انهيار فقاعة شركات الإنترنت في بداية هذا العقد. وهذه الفقاعة تبدو مشابهة لأحداث هذا العام لأن الانهيار جاء بعد موجة قوية من الحماسة الكبيرة لسوق الأسهم من النوع الذي استبق الظروف الحديثة في أسواق الائتمان. وعلى الأخص، في أواخر التسعينيات كانت مستويات الديون ترتفع في النظام في الوقت الذي تخلى فيه مستثمرو الأسهم عن الحذر وألقوه في مهب الريح وسط اعتقاد واسع النطاق بأن الابتكار عمل على تغيير قواعد الاستثمار. (وبصورة خاصة، في عام 1999، كان ينظر إلى صعود الإنترنت على أنه غيّر دورات الأعمال).
لكن حين عانى مستثمرو الأسهم فقداناً مفاجئاً في الثقة في أسهم شركات الإنترنت التي كانت أسعارها فوق قيمتها الحقيقية، تدافع المستثمرون للتخلص من الديون بقوة، في موجة قوية من تقليص نسبة التسهيلات اللازمة للدخول في الاستثمار تشبه الموجة التي نشهدها هذا الصيف. يقول بنك كريدي سويس، في مذكرة أرسلت حديثاً إلى العملاء: "إن تقليص نسبة التسهيلات اللازمة للدخول في الاستثمار في نظام تنتشر فيه فوق الحد التسهيلات الكبيرة للاستثمار هو دائماً أمر يتسم بالمخاطرة. وكانت آخر مرة حدث فيها ذلك على هذا النطاق الواسع هو انفجار فقاعة الإنترنت، حين كانت التسهيلات في قطاع الشركات هي المتهم الرئيسي، ولكن كان المستثمرون في الأسهم يديرون محافظ استثمارية أكثر خطراً بكثير مما يفعلون في العادة".
قبل سبع سنين أشعلت هذه الأحداث مخاوف من أن بوادر كساد اقتصادي خطير كانت تتجمع في الأفق، وهو كساد تم تجنبه إلى حد ما بعد أن خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة. وعمل تقليص نسبة التسهيلات في نهاية الأمر على انقباض ائتمان الشركات في سوق الأوراق التجارية، أو القطاع الذي تقوم فيه الشركات باقتراض الأموال على المدى القصير. ويقول جيفري روزنبيرج، وهو محلل لدى مصرف بانك أوف أمريكا: "خلال عام 2002، أغلقت أسواق الأوراق التجارية للشركات، مما أرغم جهات تقديم السيولة الاحتياطية لملء الفراغ، وأدى ذلك إلى زيادات كبيرة في المخاطر الائتمانية بالنسبة للنظام المصرفي". وذكر أن ظاهرة مشابهة انفجرت مرة أخرى هذا الشهر في أجزاء من سوق الأوراق التجارية.
لكن، كما يلاحظ روزنبيرج كذلك، فإن من الفروق اللافتة للنظر بين أحداث هذا الصيف وبين عام 2002 هو أن الشركات المالية، وليس شركات التصنيع على سبيل المثال، هي التي تواجه انقباض التمويل. وهذا يبرز كذلك فرقاً آخر في مثل أهمية الفرق الأول، وهو أنه في حين أنه في عام 2000 كانت قائمة الشركات المثقلة بالديون تشتمل على عدد من الشركات المعروفة في الاقتصاد، إلا أن اللاعبين الماليين هذه المرة، مثل صناديق التحوط أو البنوك، هم الجهات التي تتعامل بقدر هائل من التسهيلات الاستثمارية.
ربما يساعد ذلك في تفسير السبب الذي يقف وراء الاضطراب الحالي في أسواق الائتمان، وليس في عالم الأسهم (كما كانت عليه الحال في عام 2000). ولكن ذلك يعني ضمناً أن الاضطراب الحالي في الأسواق سيكون أثره السلبي على "الاقتصاد الحقيقي" أقل مما كانت عليه الحال قبل سبع سنوات، على اعتبار أن هذا الاضطراب لم يؤد إلى تضرر الشركات الكبيرة في الاقتصاد الرئيسي، حتى الآن.
وبالتالي، يرتاب بعض المحللين ويرون أن الأنموذج الأفضل بكثير لتحليل أحداث اليوم يمكن أن يكون على مسافة أبعد من مجرد سبع سنوات، ويقصدون بذلك أحداث العامين 1997 و1998، حين أشعلت عاصفة في الأسواق المالية العالمية عجزاً غير متوقع عن التسديد في الدين الروسي، أدى في نهاية الأمر إلى الانهيار شبه الكامل لصندوق التحوط "لونج تيرم كابيتال مانجمنت". ومن الأسباب التي يعتبر لأجلها هذا التوازي بين الحالتين مغرياً لبعض المتداولين هو أن تحركات السوق في هذا الصيف كانت عنيفة جداً بحيث أنها توحي بأن عدداً من المؤسسات الكبيرة (التي لا تعرف أسماؤها على وجه التحديد) تعاني من ضيق شديد إلى الحد الذي يجعلها تبيع محافظها بأسعار بخسة. فإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يردد أصداء النمط الذي حدث في عام 1998، حين حاول الصندوق "لونج تيرم" والأطراف المقابلة له تصفية المحافظ بسرعة، مما أدى على ما يبدو إلى تقلبات غريبة في الأسعار وانهيار الثقة بين البنوك.
لكن هناك تشابها أساسياً آخر، وهو أن اضطرابات عام 1998 تركزت أيضاً على العالم المالي، وليس على الشركات الرئيسية. ونتيجة لذلك فإن مشكلات "لونج تيرم" لم تشعل إلا عدداً قليلاً من الآثار الضارة المباشرة على الاقتصاد "الحقيقي".
دفع هذا التوازي ببعض المراقبين إلى الاستنتاج كذلك أن الفوضى التي شهدتها الأسواق هذا الشهر لن تلحق أضرار ملموسة تذكر بالاقتصاد. ولكن المشكلة هي أن الخسائر في عالم القروض السكنية لضعيفي الملاءة يبدو الآن أنها تضر بقطاع أوسع كثير من المستثمرين عما كانت عليه الحال في عام 1998. ويعود بعض السبب في ذلك إلى أن هذه الخسائر موزعة بصورة واسعة نتيجة للابتكارات المالية. من جانب آخر فإن احتمالات الألم ربما تكون أبعد من ذلك، ذلك أنه في حين أن واقعة "لونج تيرم" هددت بخلق خسارة مقدارها ثلاثة مليارات دولار للمستثمرين والبنوك المتعاملين مع صندوق التحوط، إلا أن التقديرات لحجم الخسائر من سوق القروض السكنية لضعيفي الملاءة تراوح بين 50 مليار و200 مليار دولار. ويقول جان لوييز من بنك جيه بي مورجان: "يظل الإجماع متفائلاً حول آفاق النمو العالمي ويظل مقتنعاً بأننا نشهد تكراراً لأزمة صندوق لونج تيرم. ولكننا ندرك أن التاريخ لا يعيد نفسه أبداً على نحو تام".
ومع ذلك فإن هذا لا يوقف بعض المحللين من الغوص إلى مسافات أبعد في التاريخ بحثاً عن مواعظ وعبر أفضل. وحتى الآن فإن قليلاً من أهل الخبرة حاولوا أن يوحوا لنا بأن الأحداث الحالية هي تكرار للانهيار الدرامي الذي يعرفه الجميع، وهو انهيار عام 1929. ذلك أنه يبدو حتى الآن أن الاقتصاد العالمي لا يزال يتمتع بصحة جيدة رغم كل ما حدث وأن نطاق تقلبات السوق لا يزال يبدو صغيراً للغاية إذا ما قورن بأحداث عام 1929 أو بالانهيارات الأخرى. (والواقع أنه لولا الحقيقة التي تقول إن مستويات تقلب السوق كانت منخفضة على نحو غير عادي في هذا العقد، فإن بعض المراقبين ريما يترددون أصلاً في استخدام كلمة اضطراب).
لكن بعض المحللين يرون أوجه تناظر مع انهيار آخر يعرفه الجميع كذلك، وهو انهيار عام 1987، حين خسرت أسواق الأسهم 22 في المائة من قيمتها خلال يوم واحد وانهارت 60 شركة للوساطة المالية. وتدور الصلة أساساً حول نماذج التداول. ففي الفترة المؤدية إلى انهيار عام 1987 كان "وول ستريت" قد تبنى استخدام ما يعرف بعبارة نماذج التداول في المحافظ، التي عملت بصورة فعلية على تعميق الوضع السيئ لحركة الهبوط حين أخذت الأسهم في الانهيار. وبالمثل، يخشى بعض المراقبين أن الاستخدام الواسع لجيل جديد من نماذج التداول في عام 2007، المعروفة بالاستراتيجيات الكمية عمل كذلك على تضخيم تقلبات السوق لهذا الصيف، ومكنت صدمة في قطاع ضيق في أسواق الائتمان من الإضرار بعدد هائل من فئات الموجودات.
لكن كما يبين برونر وكار في كتابهما ذي التوقيت الممتاز، فإن التاريخ يبين أن العدوى سابقة على الكمبيوترات. فالحادث الذي أشعل فتيل انهيار عام 1907 في نيويورك كان انتحار تشارلز بارني، الرئيس المخلوع لشركة نيكر بوكر تراست كومباني، الذي حاول محاصرة الأسهم في شركة يونايتد كوبر. ورغم أن موته كان يبدو حادثاً معزولاً، أو مفاجأة "تم احتواؤها" كما نقول اليوم، إلا أنه حين انتشرت مضامين الحادث فإنها أشعلت سلسلة متصلة من التفاعلات خلال العالم البنكي، مدفوعة بالحقيقة التي تقول إن مستوى التسهيلات الاستثمارية كان عالياً وكان الاقتصاد في وضع ضعيف بسبب زلزال وقع قبل ذلك بفترة قريبة.
يقول برونر: "الأزمات تشبه الأعاصير. كل إعصار له سماته الفريدة، ومع ذلك فإننا نعرف ما يكفي عن هذه الأعاصير ما يمكننا أن نقوم بتعميمات بشأنها، وإن تعميمنا الكبير من عام 1907 هو أن التفسيرات تأتي من تقارب الأسباب، ومعظمها تكون دائماً موجودة في الاقتصاد العالمي. لكن حين تصطف هذه الأسباب في الصف المناسب، فإن النتيجة تكون وقوع أزمة مالية".
ربما لا يقدم ذلك مساعدة محددة للمستثمرين الذين يريدون إرشادات واضحة حول ما إذا كانت الاضطرابات الحالية مجرد عاصفة عابرة أم غير ذلك. ولكن في الوقت الذي يقلب فيه علماء الاقتصاد كتب التاريخ، فإن هناك أمراً واضحاً كل الوضوح وهو أن اضطرابات هذا الصيف لن تكون الأخيرة. بل على العكس من ذلك، كما يذكر مالفي، فإن العبرة المستفادة من كتب التاريخ هي أن هذه الفصول تحدث بانتظام مذهل، وفي العادة بمعدل مرة كل عقد، وذلك في كل مرة تصطدم فيها التسهيلات الاستثمارية مع الابتكار وغرور المستثمرين. ويقول مالفي: "تتحرك الأسواق الآن بين ثلاثة أطوار، وهي التشاؤم ثم الشعور بالتهيب ثم التهاون والنشوة. ومن الآن أقول لكم احذروا حدوث انقباض في أسواق الائتمان في عام 2017. ولكن الأمر المحزن هو أنه حين يحل ذلك التاريخ فإن الأسواق ستتصرف مرة أخرى وكأن اضطرابات عام 2007 لم تقع قط."
0 التعليقات :
إرسال تعليق