تابع جديد المدونة عبر:

المشتقات وحش المالية المفترس

هذا العنوان يمثل أصدق وصف للمشتقات المالية , وهو عنوان كتاب للبروفيسور الاقتصادي ” الفريد ستاينر ” كبير الاقتصاديين ببنك الاستثمار الأوروبي , والذي يصف فيه المشتقات بأنها ديناميت الأزمات المالية في العالم , ومن العجيب أن المستثمر والملياردير ” وارن بافت ” أحد أغنى أغنياء العالم يصف المشتقات بأنها قنابل موقوتة للمتعاملين بها وللاقتصاد , وأنها أسلحة مالية للدمار الشامل .

المشتقات المالية

المشتقات ليست أصولاً عينية , وليست أصولاً مالية ” أوراق مالية ” بالمعنى التقليدي كالأسهم والسندات , وإنما هي أدوات مالية تشتق قيمتها من اتجاهات أسعار الأوراق المالية محل التعاقد أو السلع أو مؤشرات الأسعار .

فالمشتقات عقود تتضمن ترتيبات بين طرفين أحدهما بائع والآخر مشتري للمخاطر المالية , ينبني عليها حقاً لطرف والتزاماً على الطرف الآخر , أي أنها عملية توليد لأدوات تعاقدية من الأصول المالية لتنفيذ عمليات رهان وقمار تتعلق ببنود خارج الميزانية في موعد لاحق وفقاً لما هو مجدول لها , ولا تتضمن هذه العقود عائد على الاستثمار لأنه لا يوجد مال مستثمر أصلاً.

يعبر عن هذه الحقيقة بوضوح تعريف المشتقات المالية المقدم من بنك التسويات الدولية التابع لصندوق النقد الدولي , الذي يرد في مضمونه أن المشتقات المالية عقود تتوقف قيمتها على أسعار الأصول المالية محل التعاقد , ولكنها لا تقتضي أو تتطلب استثماراً لأصل المال في هذه الأصول , ويكفي تبادل مدفوعات فروقات الأسعار بين طرفي العقد , وأنه ليس من الضروري انتقال ملكية الأصل محل التعاقد .

المشتقات المالية لا يمكن حصرها لأن الهندسة المالية لا تتوقف عن ابتكار عقود مالية جديدة ” منتجات مالية ” كما يسميها البعض بالمخالفة لمفهوم المنتجات الحقيقية , ومع هذا فكل المشتقات المالية تتفق في طبيعتها وفي الهدف منها .

طبيعة المشتقات

المشتقات ليست عقود بيع أو مبادلة حقيقية لأنه لا ينبني عليها تسليم أو نقل ملكية الأصل محل الاشتقاق , وكل ما يحدث هو تسوية فروقات الأسعار المستقبلية وفقاً لرهان كل طرف عليها في نهاية العقد , وهو ما يعني بيع بنود العقد الذي ينظم عملية بيع الأصل وليس بيع الأصل محل العقد , والمختصين في المشتقات يعتبرونها مبادلة صفرية أي أن ما يربحه طرف هو ما يخسره طرف آخر وبنفس المقدار وهذا هو عين القمار .

الهدف من المشتقات

الذين يروجون للمشتقات يزعمون أن الهدف منها هو التحوط بمعنى الوقاية والاحتماء من المخاطر المالية المستقبلية , عن طريق عقود لتبادل المخاطر يتم بموجبها نقل المخاطر من طرف ليس لديه القدرة والكفاءة عل تحملها إلى طرف آخر لديه القدرة والكفاءة على تحملها , بحيث يتفرغ الطرف الأول للعملية الإنتاجية , ويستفيد الطرف الثاني من العائد الذي يحققه مقابل تحمله للمخاطر . وعقود تبادل المخاطر كلها عقود آجلة تأخذ أحد ثلاثة صور هي :

1- العقود المستقبلية

العقود المستقبلية عقود آجلة يجري التعامل عليها في البورصة تتضمن الاتفاق على تسليم سلعة بمواصفات محددة في تاريخ مستقبلي , ولا يقتصر نشاط هذه العقود على السلع فقط بل تتخطاها لتشمل كل ما يمكن تصوره وما لا يمكن تصوره من أسهم وسندات , وعملات , ومعدلات فائدة , ومؤشرات أسعار, ومبادلات ديون وغير ذلك الكثير .

مثال : تعاقد مشتري على شراء سلعة أو سهم بعد شهر من تاريخه بسعر 100 جنيه يتم دفعها في تاريخ التسوية , وعند حلول الأجل وجد البائع أن سعر السلعة أو السهم قد ارتفع إلى 125 جنيه وهو لا يريد أن يسلم للمشتري ما اشتراه , وشروط العقد تعطيه الحق في عمل تسوية مع المشتري دون الحاجة إلى تسليم السلعة أو السهم فقام بسداد 25 جنيه الفرق بين السعر في يوم التعاقد وبين السعر في يوم التسوية , ويحدث العكس تماماً إذا انخفض السعرإلى 75 جنيه والمشتري لا يريد استلام ما اشتراه فإنه يقوم بسداد 25 جنيه فرق السعر للبائع وينتهى العقد .

هنا يجب التنويه إلى أن البعض يحاول تصوير العقود المستقبلية للمشتقات على أنها عقود بيع السلم في النظام الاقتصادي الإسلامي , والحقيقة أن هناك اختلاف جوهري بينهما في أمرين :

أ- في بيع السلم يتم تعجيل الثمن وتأخير المثمن بينما في العقد المستقبلي يتم تأخير الثمن والمثمن معاً .

ب- في عقد السلم يجب تسليم السلعة عند حلول الأجل بينما في العقود المستقبلية يتم تسوية فروق الأسعار دون الحاجة إلى تسليم السلعة .

2- عقود الخيار

هي عقود تعطي لمشتريها حق شراء أو بيع سلعة ( أسهم ) في تاريخ محدد بسعر متفق عليه مسبقاً , ولا يترتب على مشتري الخيار التزام بالبيع أو الشراء , وإنما مجرد حق يستطيع أن يمارسه أو يتركه , ويصبح مشتري الخيار مالكاً له بمجرد دفع قيمته لبائع حق الخيار , ويحق له بيعه وتداوله , وثمن الاختيار ليس جزءاً , أو دفعة مقدمة من ثمن الأسهم .

فعقود الاختيار تبرم بين طرفين أحدهما مشتري الخيار بصرف النظر عن كونه داخلاً إلى السوق بائعاً أو مشترياً , وبين بائع الخيار ” محرر العقد ” ويتم دفع جزء من المبلغ المتفق عليه فوراً على أن يتم إتمام الدفع والتسليم في المستقبل , وتعطي هذه العقود لمشتريها الحق في إلغاء صفقة بيع أو شراء السلعة المتفق عليها في أي وقت مقابل التنازل عن قيمة الخيار المدفوع .

مثال : قام متعامل بشراء ” عقد خيار شراء ” لـ 100سهم من أسهم شركة ما بسعر 10 جنيهات للسهم لمدة 60 يوماً مقابل 100 جنيه , هذا العقد يعطي المستثمر الحق في شراء كمية الأسهم بنفس السعر من يوم التعاقد وحتى 60 يوماً , وبالطبع فإن مشتري عقد الخيار سيتخذ قراره بالشراء من عدمه بناء على تطور أسعار الأسهم .

فإذا صدقت توقعات مشتري خيار الشراء وارتفع سعر السهم في تاريخ التنفيذ إلى 15 جنيهاً للسهم فإنه سيقوم بالشراء للبيع بأسعار أعلى , وفي هذه الحالة سيحقق صافي ربح قدره 400 جنيهاً , وذلك بعد خصم المدفوع مقابل عقد الخيار , وإذا لم تصدق توقعاته وانخفض سعر السهم عن 10 جنيهات فإن مشتري عقد الخيار سيمتنع عن تنفيذ العقد ويخسر 100 جنيهاً الثمن الذي دفعه في شراء عقد الخيار .

وهنا يجب التأكيد على عدم الخلط بين الخيار في الشرع , والاختيار في عقود المشتقات لأن الأمران مختلفان تماماً من حيث الشكل والمضمون والقصد على النحو التالي :

أ- الخيار في الفقه الإسلامي هو مجرد حق في فسخ العقد بمقتضى سبب أثبته الشرع ، وهو تابع للبيع نفسه وليس حقاً مستقلاً بذاته ، كما أنه ليس له ثمن ولا يجوز بيعه إطلاقاً عند الفقهاء , بينما الاختيار في المشتقات عقد مستقل عن عقد البيع , وله ثمن منفصل يباع ويشترى به .

ب- محل العقد في الخيار الشرعي موجود متحقق في السلعة ، بينما المحل في الاختيار في البورصة مجرد حق قائم بذاته منفصل عن الأسهم ، لأن لها عقداً آخر هو عقد البيع وليس حقاً , وفي الأغلب أن من يبيع الاختيار في البورصة لا يملك الأسهم التي تكون ملكاً لآخر .

ج- الاختيارات في البورصة يمكن أن تصل مدتها إلى سنوات ، بينما في خيار الشرط الشرعي ثلاثة أيام لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان جعل له الخيار ثلاثة أيام إن رضي أخذ وإن سخط ترك .

3- عقود الفروقات

هي عقود توقع بين شركة وساطة مالية وبين أفراد أو مؤسسات مالية بغرض شراء أو بيع الفارق بين قيم الفتح والإغلاق لسلعة , أو لسهم , أو لعملة , أو لمؤشر الأسعار , أو لسعر الفائدة وغير ذلك , وليس فيها إمكانية للتسليم الفعلي لأنه لا يوجد ما يمكن تسليمه من الأساس .

مثال : لشراء عقد مؤشر أسعار الأسهم

الشروط الأولية : الأموال المودعة من العميل في حساب المتاجرة 100 دولار .
في الساعة 11 صباحاً قرر شراء 1 حصة من أسهم مؤشر داو جونز الصناعي وهو مسجلاً 4525 نقطة , متطلبات الهامش لمؤشر التداول 2% من قيمة العقد .

شروط العقد تتضمن أن التغير بمقدار 1 نقطة من المؤشر تساوي 1 دولار ربح أو خسارة .

شراء حصة واحدة يحتاج 4525 * 02, = 90,5 دولار من الموجود في حساب المتاجرة .

في الساعة 16 من نفس اليوم وصل المؤشر إلى 4577 نقطة وقرر العميل إغلاق العملية .

الفرق بين سعر إغلاق المؤشر لموقف شراء وسعر الافتتاح هو 4577-4525 = 52 نقطة .

الأرباح المتحققة للعميل نتيجة هذا العقد هي 52 * 1 = 52 دولار .

وبذلك تصبح أموال حساب المتاجرة 100 + 52 = 152 دولار .

يوضح هذا المثال أن عقود الفروقات من أهم أدوات المجازفة لأنها لا تنطوي على شراء شئ معلوم يمكن تملكه أو استلامه , وهي عقود لتحويل المخاطر إلى سلع تباع وتشترى بصورة منفصلة عن ملكية الأصول الحقيقية .

تذكير

 أن بيع وشراء الأسهم في البورصة ” السوق الثانوية ” التي تتجاوز تعاملاتها آلاف المليارات سنوياً لا تساهم في إنشاء شركة جديدة , أو التوسع في شركة قائمة , أو توفير فرصة عمل , أو تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد , بل على العكس من ذلك تماماً حيث أن التعامل في البورصة يؤدي إلى إخراج الأموال من النشاط الإنتاجي الحقيقي والدفع بها إلى النشاط المالي الطفيلي , الذي يهدر الثروات والمدخرات اللازمة للعملية التنموية في تعاملات وهمية لا يستفيد منها سوى فئة مخصوصة ومحدودة , على حساب تدمير الاقتصاد .

وأن عدد غير قليل من علماء الاقتصاد , وخبراء الاستثمار , ومختصون غربيون في شئون البورصة يعتبرون أن كل من يكرس كل وقته في المتاجرة بالأسهم لتحقيق هامش ربح عند الشراء والبيع يعتبر من كبار المقامرين .

وأن القوانين الحاكمة للمبادلات في هونج كونج تقضي صراحة بأن عمليات المضاربة على فروق الأسعار تعد من القمار وتعد عمليات غير مشروعة ، وأن القانون الأسترالي يخضع عقود الخيار على الأسهم التي تتطلب تسوية نقدية لقانون الدولة للقمار والرهان .

تحذير

إذا كان هذا هو الرأي في بيع وشراء الأسهم التي تمثل حقوق مالية لأصحاب المشروع على أصوله العينية الحقيقية في حال بيعها وشراؤها في البورصة دون المساس بأصل الثروة العينية , فمن الطبيعي أن يكون الرأي في بيع وشراء المشتقات التي تمثل حق مشتق من حق مالي ولا توجد بينها وبين الأصول الحقيقية أي علاقة أنها قمار مركب .

وهذا ما قال به الاقتصادي ذو الشهرة الذائعة ” بيتر دراكر ” الذي يرى أن أهم ما تمخض عنه الفكر المالي الحديث من ابتكارات خلال الثلاثين عاماً الماضية لم يكن سوى أدوات القمار التي يجري التعامل عليها في ” لاس فيجاس ” أو ” مونت كارلو ” .

مما تقدم يتبين أن عقود المشتقات المالية كالعملة المزيفة , لا يصح تداولها بأي حال من الأحوال في السوق , لأن التعامل بها يعني خروج العملة الصحيحة من السوق , ويعني أيضاً حصول من زيفوا العملة على السلع والخدمات وامتلاك الأصول العينية بلا مقابل , وهو نفس ما تقوم به عقود المشتقات المالية التي توفر أداة استثمارية مزيفة لأصحاب المدخرات لتلتهم بها أموالهم بدلاً من استثمارها في أصول إنتاجية حقيقية .

في النهاية أقول للاقتصاديين الماليين , والمتعاملين , وكل من يريد إدخال عقود المشتقات للبورصة لتنشيط التداول , احذروا من وحش المالية المفترس .


الكاتب :-عبدالفتاح صلاح

0 التعليقات :

إرسال تعليق