لا يمكن لبني البشر أن يجمعوا بين صفتي اللطف واللامبلاة الغبية في آن واحد.
حصل هيربرت سايمون على جائزة نوبل للاقتصاد في العام 1978، وذلك تقديراً للأبحاث التي قام بها حول عملية صنع القرار في المنظمات الاقتصادية. ويعد هيربرت واحداً من أكثر علماء الاجتماع تأثيراً في القرن العشرين.
واستشهدت دراسة حول تاريخ التمويل السلوكي أيضاً بأبحاثه التي أجراها في العام 1955، تحت عنوان «النموذج السلوكي للخيار العقلاني» (1955)، حيث كان ينظر إليها الباحثون على أنها الأولى التي كانت السبب في إطلاق هذه الأفكار بعد ذلك.
ورغم أن الأبحاث انطلقت من وجود حاجة ملحة تحتم مراجعة النموذج الاقتصادي الذي يفترض أن الرجل الاقتصادي يتسم بالعقل ويمتلك المعرفة ويتمتع بالمهارة الحسابية، ويكون منظماً بشكل جيد، وينطلق في عمله من نظام ثابت للأفضليات، ويمكنه أن يخطط لمسارات العمل البديلة، ويصل إلى أعلى نقطة يمكن بلوغها على مقياس الأشياء المفضلة، لكنه يقول بوضوح إن الهدف من البحث ليس التعرض لمناقشة هذه الشكوك، أو تحديد ما إذا كانت مبررة أم لا، وإنما التفكير بشأن المراجعة أو اتخاذ اتجاه نحو نموذج اقتصادي أفضل. ولم يذكر المؤلف كلمة «لاعقلاني» أو «غير عقلاني» في أي مكان من البحث.
ويذكر المؤلف أنه قد يكون من الصعب على هذه الكيانات أن تمتلك التسلسل الهرمي للآليات العقلانية، ومن ثم إقامة مقارنة بين المعالجة الحاسوبية (الكمبيوتر) وبين البشر، لأنه يمكن أن توصف بالتخلف في موقف مختلف. ولا بد أن يكون ذلك بمثابة صدمة بالنسبة لبعض المؤمنين بالتمويل السلوكي، الذين قبلوا ببعض العبارات الدارجة مثل تلك التي تصف البشر باللطف والعته في آن واحد، على حد قول تيري بورنهام من جامعة «هارفارد»، وبدأ يعتقد أن الأمر يتعلق باللاعقلانية أكثر من العقلانية.
بيد أن العقلانية التي يتحدث عنها هيربرت تعد مفهوماً كامناً في روح الاقتصاد السلوكي. ويقترح دانيال كانمان الحائز على جائزة نوبل للعام 2002، أن تكون العقلانية المحدودة نموذجاً للتغلب على بعض أوجه القصور في نماذج العوامل العقلانية في الاقتصاد.
ويعني وضع العقلانية المحدودة أو المقيدة ببساطة أنه لا يوجد هناك قدر كاف من المعرفة للمساعدة على اتخاذ القرارات، ومن ثم تأتي القيود التي تعوق اتخاذ القرارات.
وخلافاً للطرح الذي قال به دانيال، يقول غيرد غيغرينزر، وهو طبيب نفساني ألماني، إن قواعد الاستدلال «قواعد الإبهام» ينبغي ألا تقودنا إلى تصور أن التفكير الإنساني على مليء بالتحيزات الإدراكية غير العقلانية، لكن إلى تصور العقلانية كأداة تكيّف غير مطابقة لقواعد المنطق الرسمي أو حساب الاحتمالية.
وخرج غيرد بنتيجة مفادها أنه كان يساء تفسير العقلانية المحدودة من قبل التمويل السلوكي.
وهنا نطرح سؤالنا الرئيس في هذا المقال: هل فهم جهابذة التمويل السلوكي ذلك بشكل خاطئ؟ وهل كان تركيزهم منصباً بشكل كبير على القيود التي تواجه البشر عند صناعة القرار، بدلاً من العمل للتوصل إلى نموذج كما كان يعتزم هيربرت؟ وهل كان من السهل التعامل مع القيود لإيجاد حلول لها بدلاً من العمل على نموذج فكري عقلاني ؟
وهل يثبت ذلك أن الأصوليين كانوا على صواب حينما قالوا إن التمويل السلوكي هو القصة الكبرى للأخطاء البشرية ؟
لكن هذا الموقف لم يصدر عن الأصوليين فقط، بل تحدث غيرد أيضاً عن التمويل السلوكي من خلال توضيح قيود صناعة القرار الإنساني، وعدم القدرة الإنسانية على التعامل مع التفكير الأمثل.
كما يتحدث غيرد عن البدائل البسيطة للتحليل العقلاني الكامل، وكيف أن الاستدلالات البسيطة تؤدي في الكثير من الأحيان إلى قرارات أفضل من الإجراءات المثالية من الناحية النظرية. وبعد أن يقوم أحدنا بقراءة الأفكار التي ساقها غيرد، تبدأ الاستدلالات في الظهور بشكل صحيح وعلى نحو أفضل مما عمل عليه التمويل السلوكي، وهو مجرد خطأ.
إن هذه ليست هي المرة الأولى التي يتم فيها تجاهل الأفكار الكبيرة، بل كان مصير أفكار هيربرت الأولية حول الذكاء الصناعي التجاهل التام على مدى سبع سنوات. لكن البحث الذي أعتقد أنه لم يحصل على الاهتمام اللازم في الاقتصاد وعلم النفس هو الذي كتبه في العام 1962، وطرح بعنوان «البنية المعمارية للتعقيد».
وفي هذا البحث، قال هيربرت إن التعقيد يأخذ في كثير من الأحيان شكل التسلسل الهرمي، وتكون الأنظمة عبارة عن أنظمة هرمية مستقلة عن المحتوى المعين، كما أن هناك نوعاً من الترابط في المستويات العليا والدنيا بينهما، وتوجد أيضاً نظم فرعية ابتدائية.
وتناول هيربرت بالتفصيل النظم الاجتماعية الهرمية والنظم البيولوجية والرمزية والمنتجة ذاتياً، وحتى الهياكل الهرمية في التفاعلات الاجتماعية، وبالتالي لا بد من الوصول إلى أقصى درجات التطور والتعقيد من رحم البساطة.
وكانت هذه محاولة هيربرت لتفسير توزيع قوانين النفوذ التي تمتاز بطبيعتها الأسّية، أي أنها تتضاعف باستمرار كلما ارتقت في عتباتها من الأدنى إلى الأعلى. ويتحقق مسار بناء النظام المعقد من خلال نظرية التسلسل الهرمي، ولو كان الوقت في الحقيقة ثلاثي الأبعاد وهرمي الشكل، لكان بمقدورنا أن ندرك بسهولة بنية التعقيد التي طرحها هيربرت.
فهل من الممكن أن يعاني التمويل السلوكي من العقلانية المحدودة ؟
ولو افترضنا أن البشر لا يتسمون بالعقلانية مع أنهم تمكنوا من ابتكار تلك الأشياء العظيمة في المقام الأول، بما في ذلك الأسواق، لا يبدو أن اللاعقلانية قد تجد مكاناً لها في هذا الطرح. لذلك فإن الأسئلة القليلة عن التمويل السلوكي قد تكون مرتبطة بالنظام، ومنها: هل يمكن للتمويل السلوكي تعريف وتحديد الانعكاسات الطويلة في الأسواق؟
وهل تحمل تلك الانعكاسات طبيعة متكررة ؟
وما مدى الاختلاف بين تلك الانعكاسات الطويلة وموضوع الدورات الزمنية (النظام) الذي كتب على مدى القرون القليلة الماضية؟ ولو كانت مسألة استقلالية المستثمر عديمة القيمة، مثلما قال بنارتزي ثيلر، وإذا كان من الصعب العثور على المستثمرين العظماء من أمثال بيتر لينش،كما يقول هيرش شيفرين، إذاً كيف يمكن للمستثمرين الاختيار بين بدائل المؤشرات السلبية؟ وهل يوجد هناك نظام في أداء المؤشرات؟
وهل يتخذ هذا الأداء شكلاً دورياً ؟
وإذا كان نجاح السوق مرتبطاً بعمليات الجمع والطرح، حسب قول ثيلر ولامونت، فما هو دور الرياضيات في الانعكاسات الطويلة والتمويل السلوكي؟
وإذا كان بمقدورنا فعلاً فهم فكرة اللاعقلانية، أين هو نموذج العقلانية الذي اقترحه هيربرت؟ وكيف يتغير التمويل السلوكي لو كان الزمن هو النظام الذي يتحدث عنه هيربرت ؟
الكاتب:- موكول بال
حصل هيربرت سايمون على جائزة نوبل للاقتصاد في العام 1978، وذلك تقديراً للأبحاث التي قام بها حول عملية صنع القرار في المنظمات الاقتصادية. ويعد هيربرت واحداً من أكثر علماء الاجتماع تأثيراً في القرن العشرين.
واستشهدت دراسة حول تاريخ التمويل السلوكي أيضاً بأبحاثه التي أجراها في العام 1955، تحت عنوان «النموذج السلوكي للخيار العقلاني» (1955)، حيث كان ينظر إليها الباحثون على أنها الأولى التي كانت السبب في إطلاق هذه الأفكار بعد ذلك.
ورغم أن الأبحاث انطلقت من وجود حاجة ملحة تحتم مراجعة النموذج الاقتصادي الذي يفترض أن الرجل الاقتصادي يتسم بالعقل ويمتلك المعرفة ويتمتع بالمهارة الحسابية، ويكون منظماً بشكل جيد، وينطلق في عمله من نظام ثابت للأفضليات، ويمكنه أن يخطط لمسارات العمل البديلة، ويصل إلى أعلى نقطة يمكن بلوغها على مقياس الأشياء المفضلة، لكنه يقول بوضوح إن الهدف من البحث ليس التعرض لمناقشة هذه الشكوك، أو تحديد ما إذا كانت مبررة أم لا، وإنما التفكير بشأن المراجعة أو اتخاذ اتجاه نحو نموذج اقتصادي أفضل. ولم يذكر المؤلف كلمة «لاعقلاني» أو «غير عقلاني» في أي مكان من البحث.
ويذكر المؤلف أنه قد يكون من الصعب على هذه الكيانات أن تمتلك التسلسل الهرمي للآليات العقلانية، ومن ثم إقامة مقارنة بين المعالجة الحاسوبية (الكمبيوتر) وبين البشر، لأنه يمكن أن توصف بالتخلف في موقف مختلف. ولا بد أن يكون ذلك بمثابة صدمة بالنسبة لبعض المؤمنين بالتمويل السلوكي، الذين قبلوا ببعض العبارات الدارجة مثل تلك التي تصف البشر باللطف والعته في آن واحد، على حد قول تيري بورنهام من جامعة «هارفارد»، وبدأ يعتقد أن الأمر يتعلق باللاعقلانية أكثر من العقلانية.
بيد أن العقلانية التي يتحدث عنها هيربرت تعد مفهوماً كامناً في روح الاقتصاد السلوكي. ويقترح دانيال كانمان الحائز على جائزة نوبل للعام 2002، أن تكون العقلانية المحدودة نموذجاً للتغلب على بعض أوجه القصور في نماذج العوامل العقلانية في الاقتصاد.
ويعني وضع العقلانية المحدودة أو المقيدة ببساطة أنه لا يوجد هناك قدر كاف من المعرفة للمساعدة على اتخاذ القرارات، ومن ثم تأتي القيود التي تعوق اتخاذ القرارات.
وخلافاً للطرح الذي قال به دانيال، يقول غيرد غيغرينزر، وهو طبيب نفساني ألماني، إن قواعد الاستدلال «قواعد الإبهام» ينبغي ألا تقودنا إلى تصور أن التفكير الإنساني على مليء بالتحيزات الإدراكية غير العقلانية، لكن إلى تصور العقلانية كأداة تكيّف غير مطابقة لقواعد المنطق الرسمي أو حساب الاحتمالية.
وخرج غيرد بنتيجة مفادها أنه كان يساء تفسير العقلانية المحدودة من قبل التمويل السلوكي.
وهنا نطرح سؤالنا الرئيس في هذا المقال: هل فهم جهابذة التمويل السلوكي ذلك بشكل خاطئ؟ وهل كان تركيزهم منصباً بشكل كبير على القيود التي تواجه البشر عند صناعة القرار، بدلاً من العمل للتوصل إلى نموذج كما كان يعتزم هيربرت؟ وهل كان من السهل التعامل مع القيود لإيجاد حلول لها بدلاً من العمل على نموذج فكري عقلاني ؟
وهل يثبت ذلك أن الأصوليين كانوا على صواب حينما قالوا إن التمويل السلوكي هو القصة الكبرى للأخطاء البشرية ؟
لكن هذا الموقف لم يصدر عن الأصوليين فقط، بل تحدث غيرد أيضاً عن التمويل السلوكي من خلال توضيح قيود صناعة القرار الإنساني، وعدم القدرة الإنسانية على التعامل مع التفكير الأمثل.
كما يتحدث غيرد عن البدائل البسيطة للتحليل العقلاني الكامل، وكيف أن الاستدلالات البسيطة تؤدي في الكثير من الأحيان إلى قرارات أفضل من الإجراءات المثالية من الناحية النظرية. وبعد أن يقوم أحدنا بقراءة الأفكار التي ساقها غيرد، تبدأ الاستدلالات في الظهور بشكل صحيح وعلى نحو أفضل مما عمل عليه التمويل السلوكي، وهو مجرد خطأ.
إن هذه ليست هي المرة الأولى التي يتم فيها تجاهل الأفكار الكبيرة، بل كان مصير أفكار هيربرت الأولية حول الذكاء الصناعي التجاهل التام على مدى سبع سنوات. لكن البحث الذي أعتقد أنه لم يحصل على الاهتمام اللازم في الاقتصاد وعلم النفس هو الذي كتبه في العام 1962، وطرح بعنوان «البنية المعمارية للتعقيد».
وفي هذا البحث، قال هيربرت إن التعقيد يأخذ في كثير من الأحيان شكل التسلسل الهرمي، وتكون الأنظمة عبارة عن أنظمة هرمية مستقلة عن المحتوى المعين، كما أن هناك نوعاً من الترابط في المستويات العليا والدنيا بينهما، وتوجد أيضاً نظم فرعية ابتدائية.
وتناول هيربرت بالتفصيل النظم الاجتماعية الهرمية والنظم البيولوجية والرمزية والمنتجة ذاتياً، وحتى الهياكل الهرمية في التفاعلات الاجتماعية، وبالتالي لا بد من الوصول إلى أقصى درجات التطور والتعقيد من رحم البساطة.
وكانت هذه محاولة هيربرت لتفسير توزيع قوانين النفوذ التي تمتاز بطبيعتها الأسّية، أي أنها تتضاعف باستمرار كلما ارتقت في عتباتها من الأدنى إلى الأعلى. ويتحقق مسار بناء النظام المعقد من خلال نظرية التسلسل الهرمي، ولو كان الوقت في الحقيقة ثلاثي الأبعاد وهرمي الشكل، لكان بمقدورنا أن ندرك بسهولة بنية التعقيد التي طرحها هيربرت.
فهل من الممكن أن يعاني التمويل السلوكي من العقلانية المحدودة ؟
ولو افترضنا أن البشر لا يتسمون بالعقلانية مع أنهم تمكنوا من ابتكار تلك الأشياء العظيمة في المقام الأول، بما في ذلك الأسواق، لا يبدو أن اللاعقلانية قد تجد مكاناً لها في هذا الطرح. لذلك فإن الأسئلة القليلة عن التمويل السلوكي قد تكون مرتبطة بالنظام، ومنها: هل يمكن للتمويل السلوكي تعريف وتحديد الانعكاسات الطويلة في الأسواق؟
وهل تحمل تلك الانعكاسات طبيعة متكررة ؟
وما مدى الاختلاف بين تلك الانعكاسات الطويلة وموضوع الدورات الزمنية (النظام) الذي كتب على مدى القرون القليلة الماضية؟ ولو كانت مسألة استقلالية المستثمر عديمة القيمة، مثلما قال بنارتزي ثيلر، وإذا كان من الصعب العثور على المستثمرين العظماء من أمثال بيتر لينش،كما يقول هيرش شيفرين، إذاً كيف يمكن للمستثمرين الاختيار بين بدائل المؤشرات السلبية؟ وهل يوجد هناك نظام في أداء المؤشرات؟
وهل يتخذ هذا الأداء شكلاً دورياً ؟
وإذا كان نجاح السوق مرتبطاً بعمليات الجمع والطرح، حسب قول ثيلر ولامونت، فما هو دور الرياضيات في الانعكاسات الطويلة والتمويل السلوكي؟
وإذا كان بمقدورنا فعلاً فهم فكرة اللاعقلانية، أين هو نموذج العقلانية الذي اقترحه هيربرت؟ وكيف يتغير التمويل السلوكي لو كان الزمن هو النظام الذي يتحدث عنه هيربرت ؟
الكاتب:- موكول بال
0 التعليقات :
إرسال تعليق